العدد 236 - الثلثاء 29 أبريل 2003م الموافق 26 صفر 1424هـ

المصالحة العربية مع العقل دعوة مؤجَّلة الإنجاز

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

أينما تلتفت في خضم التحليل السياسي المتدفق واللاحق على سقوط النظام العراقي السابق الذي تمتلئ به صحافتنا العربية، فستقرأ تكرارا، ان أحد أهم الدروس المعادة في التحليل لدى كثيرين وبكلمات وتعبيرات مختلفة، والتي يمكن استخلاصها من هذا السقوط المدوي هو ضرورة المصالحة بين الأنظمة العربية وشعوبها والعودة إلى السلم الأهلي، من اجل تفادي ما حصل في بغداد، والتفاصيل كثيرة، تختلف أولياتها باختلاف خلفية المحلل أو الكاتب ورؤيته للأمور، وهي فكرة صحيحة لا غبار عليها من حيث المطلق، إلا أنها ناقصة نقصانا شديدا من حيث التأصيل، فالمصالحة مطلوبة في مجال اكبر وأوسع، وهي مصالحة ثقافية قبل كل شيء، مصالحة النخبة العربية مع نفسها ومصالحة النخب مع قواعدها في بلادنا العربية، التي تحمل على أرضها مئتين وثمانين مليونا من البشر (يساوي عدد سكان الولايات المتحدة تقريبا)، وأيضا مصالحة النخب العربية مع بعضها البعض وتحديد اولوياتها، هي من اولويات العمل العربي الثقافي.

هذه النخب هي إما قيادات الأحزاب أو المنظمات أو الجمعيات المهنية أو القابضين على تسيير وتوجيه ما يسمى عادة الرأي العام العربي، والتي ينتشر أفرادها ومنظماتها على امتداد أرضنا العربية، وهي نخب تشتكي مر الشكوى من تسلط أفراد ومجموعات صغيرة على مفاتيح اتخاذ القرار السياسي في بلدان عربية، وربما بلدانها، وتمارس على بعضها أو على منسوبيها ما تشتكي منه نفسه وهو العزل والتهميش والإقصاء، ولا تلتفت إلى السنين الطوال التي بقيت هي فيها على رأس السلطة، في هذه المنظمة أو تلك، أو في هذا الحزب أو ذاك، إنها تتصرف بمنطق خارجي يطلب التغيير، وبمنطق داخلي معاكس يثبت القائم ويحرص على بقائه، وهو منطق في الثقافة العربية يحلّ نقد ما هو خارج، ويحرم النقد على ما هو داخل!

ولو أردنا أن نسبر غور هذه النخب المتسلطة، فإننا سنراها في معظم التشكيلات المهنية والفنية العربية، فهل رأينا مثلا تغيرات حقيقية في السنوات العشر الأخيرة على الأقل، في قيادة أحزاب أو منظمات عربية مهنية، على سبيل المثال لا الحصر، تجمع المحامين أو الكتاب أو الصحافيين أو حتى الفنانين العرب، وهل لمسنا تغييرات في رئاسات الأحزاب العربية طواعية ومؤسسية في آن.

الحقيقة الماثلة أمام أعيننا، ان كل من وصل إلى الكرسي المريح تربع عليه من دون أن يشعر بالحرج، أو حتى أن يحاول تطبيق (الديمقراطية) التي ينادي بها ليل نهار، في كل ما يقول ولا يفعل، لقد نشر احد المثقفين العرب، وهو الصديق غسان سلامة كتابا كان عنوانه «ديمقراطية دون ديمقراطيين» تنطبق على النخبة العربية، فالديمقراطية هي ثقافة لا تنقص الحاكم العربي فقط، بل تنقص وبشكل أوضح النخب العربية على اختلاف تشكيلاتها.

بعض مؤسساتنا المهنية في العالم العربي هذا تتوارث فيها الرئاسات، كما يحدث تماما في الحكم السياسي، وبعضها يأخذ مؤسساته تلك لأسباب مصلحية لمساندة هذا النظام العربي أو ذاك، في شكل يشابه الاختطاف المصلحي، وكنت في حديث مع احد الأمناء العامين لمنظمة عربية، المفروض أنها أهلية، مر كثيرون ردحا من الدهر على وجوده أمينا عاما كغيره من دون أن يتغير، وقد اخذ بعض منتسبيه منذ اشهر خلت لعقد مؤتمره في بغداد، قلت له هل تحدثتم عن الديمقراطية هناك؟ قال بحماس لا يحسد عليه «لم يكن من أولويتنا الحديث عن الديمقراطية، كانت الأولوية هي المناصرة!»، والمنظمة تلك من أولى أولياتها التي كتبت في دستورها (الدفاع عن الحريات)!

أحد مظاهر الدكتاتورية هو الابتعاد عن الناس، وعزل النفس في برج عاجي والاعتقاد بأن ما تفكر فيه النخبة هو من مصلحة المجموع لا محالة، والمجموع الشعبي لا يؤخذ رأيه حتى في مؤسساتنا الأهلية.

والديمقراطية في إحدى تجلياتها هي النزول إلى الناس والاعتقاد بأن الفرد العادي لديه قدرات غير عادية، ولكن تفحصوا ما يحدث في المؤتمرات العامة للمهن العربية أو المنظمات العربية غير الحكومية، أو الأحزاب العربية المنتشرة، وحتى الحركات التي تتخذ من الدين مجالا لدعوتها السياسية، وتنتسب إليها من المواطنين، التي من المفترض أن تشكل الروح الديمقراطية في أفضل تجلياتها ممارستها العامة هي بعيدة كل البعد عن ذلك.

الابتعاد عن الناس أو المواطنين وعدم معايشتهم والاهتمام بما يفكرون به حقا، هو عدم ثقة وليس عدم إيمان فقط بما يمثلونه، فتقوم هذه النخبة بالتفكير نيابة عنهم، فيفرضون أنفسهم بالطريقة نفسها التي ينقدون بها الحاكم العربي، فكم من رؤساء الأحزاب العربية قد تغير؟ قليل جدا، فالتغيير هنا يحدث اما بالموت أو الانقلاب الداخلي، أو بتفسخ الحزب أو المنظمة إلى أحزاب، تماما كما يحدث في المجال السياسي العربي.

كلما ذهبنا إلى لقاء عربي أو شاهدنا صور زعماء الأحزاب والمنظمات العربية في التلفاز وهم يزمجرون بخطب عصماء داعين إلى الوطن وضد الاستعمار والامتيازات التي يحتكرها الآخرون، تجد إن دققت أن كثيرا منهم تجاوز حتى سن المشيب، وهم في رفوفهم العالية نفسها، عندها تعرف أن الأمة إما لم تلد بعد وجوها جديدة، أو أن العبقرية والقيادة قد توقفت عن تلك الوجوه، وتتعرف عن قرب على أية نكسة سيصاب بها الوطن، لان المدافعين عن التعددية هم مفارقوها، والمطالبون بالديمقراطية هم وائدوها، والساعون إلى التغيير هم مثبتو الواقع القائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم بعد ذلك كله يتحدث بعضهم عن (الكيل بمكيالين) وعن (التثبت في الكراسي للحكام) فكيف ينهون عن شيء ويأتون بمثله ولا ترف لهم عين!

كما أن هناك بركات في التغيير على المستوي السياسي، هناك بركات في التغيير على مستوى النخب العربية، ليس في الأشخاص فقط ولكن في المنطلقات أيضا، وكما أن هناك نقدا للترف المادي والسياسي، هناك نقد للترف الفكري لأهل النخبة العربية، وربما نقد الأخير أهم من نقد الأول، فهل ذلك النقد مؤجل الإنجاز حتى إلى اجل غير مسمى؟

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 236 - الثلثاء 29 أبريل 2003م الموافق 26 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً