العدد 2356 - الإثنين 16 فبراير 2009م الموافق 20 صفر 1430هـ

الأمومة والأبوة السياسية: خلط الأوراق وتداخل المعايير

هبة رؤوف عزت Heba.Raouf [at] alwasatnews.com

كاتبة مصرية

كان رسول الله (ص) عبر سيرته يعلم الناس الكرامة ويفهمهم أن الولايات مسئوليات، وأن من أخطأ لابد من تقويمه لأن الأمر يتعلق بمصالح العباد، وفي كتاب الله ربط بين العمل والجزاء، ومستويات التعزير والعقوبة التي كان كثير منها معنوي كالإقصاء والمقاطعة المعنوية من الجماعة أو سقوط الشهادة -أي الأهلية أمام القضاء - أبدا.

وحين وقف رجل يسأل عمر الخطاب عن ردائه الطويل من أين له هذا وقد كان نصيب كل رجل ثوبا بالكاد يكفيه وعمر طويل القامة استدعى عمر ابنه فقال إنه أهدى والده نصيبه كي يجبر قصره.

لم يقل أحد يومها أن السؤال في العلن منكر وكان الأولى الستر وملاطفة عمر بسؤال بين الرجل وبينه.

القاعدة أن العمل في المجال العام وأمور الولايات العامة لا مجال فيها لتحكيم قيم التراحم الأسري والستر على الأفراد في زلاتهم الشخصية. مادام المرء قد تصدر فعليه أن يقبل التقويم في العلن.

من هنا يستفز المرء استخدام لغة الأبوة والأمومة في المجال السياسي، ولن أتعرض للقادة والحكام لأن الكلام في هذا يطول، لكني سأنصرف إلى التعليق على الحركات، وخاصة الإسلامية منها.

جاءني السؤال من صديقة تأسى وتتعجب قائلة: لماذا يخرج «أبناء» الحركة على الحركة «الأم» في كثير من المجتمعات العربية. اللافت أن تلك الحركات تنتقد النظر للحاكم من منظور أبوي وترفع شعار الدستورية والحرية في أحيان كثيرة.

كان ردي إن استخدام الأمومة والبنوة في وصف أبناء الحركة مدخل خاطئ، فهؤلاء ليسوا أبناء لحركة هي أسرة ومجموعة تراحمية تضامنية، هؤلاء مواطنون قرروا أن هذا «الحزب» هو حزبهم وساندوه سياسيا وتبنوا أطروحاته، لذلك فإن المشكلات التي تثور من حقهم في النقد لا ينبغي النظر لها بمعيار «العقوق» وإلا درنا في دوائر تخرجنا من معايير العدالة السياسية لمجال آخر لا ينفع الناس في أمور سياستهم البتة.

وكان الرد عندي أن خروج الناس على الحركة السياسية له أسباب، ويتخذ أشكالا متنوعة، فنجد في الحركة الإسلامية مثلا:

أولا: ظاهرة انشقاق الحركات، أو الموقف الحاد الذي تتخذه بعض الحركات الإسلامية الحديثة أو الأحدث من الحركات الأقدم تاريخا، ويكون السبب في الغالب رغبتها في التوجه الأكثر غلوا، فتزعم أن الحركات الأقدم تساهلت في أمور أو تتهمها بالمهادنة للأنظمة نتيجة طول الاضطهاد والملاحقة، فتأخذ التشدد نهجا وتهاجم الحركة الأم. هكذا فعلت الجماعات الإسلامية في مصر في مواجهة الإخوان وذهب بعضها مثل جماعة التكفير والهجرة لأقصى حد في العداء.

وقد تكون هذه الحركات بالعكس حديثة وتريد أن تصف الحركة الأم بالجمود وتخاطب الجمهور بأنها أكثر «اعتدالا» وبالتالي تكيل للحركة الأم الاتهامات وتبرر الانشقاق بأسباب مثل ضيق الأفق وعدم الإنصات للرأي المخالف وهيمنة الأجيال القديمة على التنظيم وعدم تداول السلطة وغياب الشورى وغلبة السرية والغموض على طريقة اختيار السياسات والضرب عرض الحائط بالقواعد ورأي الشباب.

أي أن الحركة قد تتهم من فريقين، أصحاب الغلو والإفراط وأصحاب التخفف والترخص بالمعنيين الفقهي والسياسي.

ثانيا: ظاهرة الأصوات التي تبرز من داخل الحركة، تتخذ مواقف مخالفة للمواقف الرسمية للحركة لكنها لا تحمل عصاها وتغادر، بل يظل هؤلاء الأفراد في الداخل لكن يشكلون فريقا أو لوبيا ينتقد علنا طريقة إدارة الأمور، ويكون هذا الفريق من الجيل الأصغر، أو من أصحاب الخبرة المختلفة مثل تيار العمل النقابي الذي طور خبرات ثم زادت خبرته في العمل البرلماني فهو أكثر استعدادا للتفاوض في قضايا بعينها مع التيارات السياسية الأخرى وأكثر استعدادا للوصول لحلول توافقية، وقد يكون جيل الوسط أو جيلا أقدم، لكن مازال يعاني من هيمنة الحرس القديم على التنظيم وحديثه باسم الجماعة واعتبار كل محاولات اللين للتيار المذكور اجتهادات شخصية لا تحسب على الحركة، بما يخلق درجة من الشللية داخل التنظيم.

ثالثا: حالة وجود أفراد أو أصوات منفردة نشأت وترعرعت داخل الحركة الإسلامية ثم فضلت الاستقلال لتتحرر من عبء الانتماء التنظيمي سواء العبء الأمني أو عبء الوقت والإدارة، وهذه تحبذ العمل المنفرد الحر وتلوم على التنظيم ضعف التجديد وبطء الحركة وتجنح للحركة في المجال الثقافي والدعوي أو المجال المدني والحقوقي. هي وفية لما نهلته من رؤية وضعتها على طريق الإسلام كمنهج حياة لكنها تركت فكرة التنظيم والمَأسسة وراءها وتتحرك بدوافع نبيلة ومخلصة لكنها تميل إلى الحرية التنظيمية والعمل في مجموعات أصغر بحرية أكبر أو العمل الفردي.

لكن الطريف هو أن الحركة الأكبر والأقدم تظل تنظر لنفسها باعتبارها «الأم» ، وتتهم كل مخالف في أي اتجاه وبأي صورة بالـ«عقوق»... ونظل نسمع عن التضحيات التي قدمتها الأجيال الأكبر وكأنها كانت للقبيلة والعشيرة والجماعة ولم تكن لله.

السؤال عن سبب «عقوق» الأبناء مدخل مضلل لفهم وتحليل الساحة السياسية والإسلامية، وكأنه سوء خلق وخيانة من طرفهم والرد عندي مجددا هو من تراث عمر بن الخطاب لمن جاء يشكو عقوق ابنه فلما سمع مقال الابن في أبيه نظر للرجل وقال له لقد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.

ما مظاهر العقوق الأصلي من طرف الحركة الأم؟

- مصادرة حق الأبناء في الرأي والحركة والمشورة.

- عدم انتقاء المنضمين للحركة بشكل جيد، فهناك حرص على الكم (لخدمة الحشد والتعبئة وخاصة في الساحة السياسية) وتغاض كثير عن النوع والكيف في خلق المنضمين للحركة، فإذا حدثت مشكلة تجد سلوكا معيبا وعدم التحلي بروح الاختلاف والنيل من تاريخ الحركة وأحيانا التناوش والتنابز بالألقاب، وهذه ما تجنيه حركة تتبنى كل من هب ودب وتعتبره ابنا لها من دون أن تتخير وتنتقي.

- عدم وجود ثقافة قبول التنوع داخل الحركة والسير على نهج الطاعة العمياء وليس الشورى المبصرة وذلك بدعوى حماية التنظيم والضغط الأمني وخلافه، وهو ما قد يبقي البعض فترة لكنه لن يبقيهم صامتين للأبد.

- التخاصم حين يترك الناس الحركة واتهامهم من قبل «الأم» بالخيانة وأحيانا بالعمالة وأحيانا بالجهل وتراه ثالثة بالتفسخ والانحراف وعدم الصبر وعدم ملازمة الذين آمنوا، والتخلي عن الجهاد وعدم الاستعصام بالجماعة، فتكسب العداوات بدلا من استثمار العشرة الطيبة في بناء الجسور واعتبار كل من أقام بالبيت ولو لفترة أخا عزيزا وشريكا ونصيرا محتملا.

هذه «الأم» التي تطالب الناس بوفاء أهل الأرحام ولا تدرك أنها حركة اجتماعية وسياسية وليست دعوة نبوية أو معصومة تحتاج لتغيير عقلها والأخذ بالمثل الذي يقول: «إن كبر ابنك صاحبه»، لأنها أحيانا تستدعي العقوق استدعاء وتستنفر الناس له استنفارا بطريقتها في إدارة أمورها وشئون الناس! والله أعلم

إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"

العدد 2356 - الإثنين 16 فبراير 2009م الموافق 20 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً