العدد 2350 - الثلثاء 10 فبراير 2009م الموافق 14 صفر 1430هـ

البروسترويكا الأميركية

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

انطلقت يوم الجمعة الماضي الموافق 6 فبراير/ شباط 2009 الدورة الـ 45 من مؤتمر ميونيخ للأمن، بمشاركة 350 شخصية عالمية بينها رؤساء دول وحكومات وقادة ورجال سياسة وعسكريون بارزون، يمثلون 50 دولة.

ازدحم جدول أعمال المؤتمر بموضوعات كثيرة، معظمها كان ذا طابع استراتيجي، تمتد آثاره كي تتجاوز الحدود الوطنية، بل وحتى الإقليمية، كي تحتل عتبتها المتقدمة على سلم الأولويات العالمية. كان هناك الملف الأفغاني الذي اعترف مستشار الأمن القومي الأميركي جيمس جونز لأول مرة، علنا، بأن حكومته قد ارتكبت «أخطاء في السياسة المتبعة حيال أفغانستان، وأن الناتو والمجتمع الدولي تأخرا للغاية في إدراك حجم المشكلات في المنطقة بأكملها والدفع بعجلة بناء الشرطة والنظام القضائي في أفغانستان إلى الأمام».

وعلى نحو مساو في الأهمية كان هناك الملف الإيراني، وبالتحديد، البرنامج النووي الإيراني الذي الذي طرحه نائب الرئيس الروسي سيرجي إيفانوف في نطاق دعوة واضحة «للحوار المباشر مع إيران بشأن مفاعلها النووي»، في سياق ترحيبه بعرض الرئيس الأميركي باراك أوباما الحوار مباشرة مع إيران بشأن برنامجها النووي.

يعكس سلوك الوفد الأميركي في هذه الدورة الاستراتيجية الأميركية التي أوصلت أوباما إلى السلطة، وعنوانها «حاجة أميركا للتغيير»، وهذا الأمر أفصح عنه إيفانوف في أعقاب محادثاته التي أجراها مع نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، حين قال «من الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة لديها رغبة قوية في التغيير، وهذا يوحي بالتفاؤل»، وشاركه هذا الرأي، السياسي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني ايغون بار الذي أكد، في تصريح لصحيفة «برلينر تسايتونج» الألمانية، أنه «يتوقع أن تتغير السياسة الأميركية تجاه أفغانستان»، كبند أساسي في التحول الذي بدأت تشهده، مؤخرا السياسة الأميركية.

تلك التعليقات وأخرى غيرها، جاءت منسجمة مع «النغمة الجديدة» التي استخدمها بايدن حول قضايا استراتيجية كثيرة من بين أهمها، نظام الدرع الصاروخية المزمع نشره في شرق أوروبا وحرص الولايات على التشاور مع الحلفاء وموسكو لضمان رد فعل إيجابي من روسيا على وجه الخصوص روسيا التي أبدت استعدادها لخفض ترسانتها النووية. وبلغت المساومة الأميركية ذروتها حين أكد بايدن عن حرص «دول حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي على فتح طرق جديدة للتعاون مع موسكو رغم إدانة الحرب الروسية في جورجيا والخلاف مع أوكرانيا حول إمدادات الغاز».

ولخصت التصريحات الساخرة التي أعقبت اللقاء الذي تم بين إيفانوف ووزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، حين قال الأول ضاحكا وموجها كلامه إلى غيتس «العالم كله يشير إلينا نحن وأنتم باعتبارنا مسئولين عن كل شيء»، فرد عليه غيتس مازحا «كالعادة هناك أشياء لا تتغير أبدا»، رغبة الطرفين في الوصول إلى حل وسط بشأن العلاقات بينهما كدولتين عظميين.

تذكرنا الحالة الأميركية اليوم، بأحوال الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، عندما اتخذ في سبتمبر/ أيلول 1989 آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف خطواتة الإصلاحية التي عرفت بإسم «البروسترويكا»، و»الجلاسوسنت» الأولى، تعنى سياسة إعادة البناء، فيما تعنى الثانية سياسة المصارحة بالحقائق بالصوت العالي. وباختصار كانت تلك الخطوة، في جوهرها، دعوة للأخذ بسياسة الانفتاح وإطلاق حرية التعبير وإلغاء الرقابة الصارمة التي كانت تمارسها الدولة.

جاءت تلك السياسة بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقها غورباتشوف على الاتحاد السوفياتي الآيل حينها للسقوط. ففي أكتوبر/تشرين الأول 1990 أسقطت الجماهير الألمانية سور برلين البغيض وتوحدت بعد ذلك الألمانيتان. وفي أبريل/ نيسان 1991، أعلنت جورجيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وفي نهاية أغسطس/ آب، من العام نفسه سلكت كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء «بيلاروسيا» الطريق ذاته. ولم تتردد روسيا (الحالية) عن إعلان الاستقلال، وصارت تسمى روسيا الاتحادية أو الفيدرالية.

الكثير من الأوساط السياسية، ومن بينها الروسية، أجزمت بان الأميركيين هم الذين أوصلوا ميخائيل غورباتشوف إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وظلّوا يتابعونه، حتى بعد وصوله إلى منصب العضو المرشّح للأمين العام للحزب الشيوعي.

الأمر يتكرر اليوم، لكن في واشنطن، بدلا من موسكو. فقد جاء الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، على حصان الدعوة إلى التغيير، وحاجة أميركا الملحة للتغيير، وعلى كل صعيد.

وكما كان عيه الحال في موسكو التي كانت تئن تحت الأزمات، تعاني الولايات المتحدة اليوم، من أزمات طاحنة. فعلى الصعيد الداخلي هناك الأزمة الاقتصادية التي لاتزال عواصفها تهز أركان الاقتصاد الأميركي من جذوره، وتدعوه، بإلحاح لتغيير بنيوي لم يعد هناك مفر منه.

وعلى الصعيد الخارجي، وفي أوروبا، هناك العلاقات الأميركية المتأزمة مع مجموعة دول حلف الناتو، التي شب البعض منها، مثل ألمانيا، عن الطوق ولم يعد بالاستمرار في الذيلية غير المبررة في العلاقات مع واشنطن، وخصوصا أن تلك العلاقة باتت تكبده الكثير من الالتزامات التي لم يعد قادرا على الإيفاء بالبعض منها، مثل المساهمة بالرجال والعتاد في معارك أميركا في أفغانستان والعراق. وبدأت الصيحات تتعالى في صفوف الناتو مطالبة بإعادة صياغة هياكله والقوانين التي تسيرها.

ولا يختلف الأمر عن ذلك في العراق وأفغانستان، اللتين لم يعد حلفاء أميركا في أي منهما قادرا على الاستمرار في تأدية الدور ذاته. فمتطلبات الدور وتكايفه، أصبحت باهضة، ماديا ومعنويا، لدرجة فقدت مبررات تحملها من قبل أولئك الحلفاء. وفي السياق ذاته، يطل علينا الملف الإيراني، الذي يحاول أوباما أن يغلقه، من دون أن تفقد واشنطن ماء وجها بسببه.

ربما لم يعد أمام أميركا سوى إطلاق بروسترويكا جديدة، تحاول، قدر المستطاع، أن تكون خسائرها أقل من تلك التي تحملتها روسيا بعد إطلاق «بروسترويكتها».

فهل ينجح أوباما في تقليص آلام الولادة وخسائرها، وهو أمر لم يكن في وسع غورباتشوف أن يحققه، نظرا إلى اختلاف ظروف الحالة، ناهيك عن اختلاف الزمان والمكان؟.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2350 - الثلثاء 10 فبراير 2009م الموافق 14 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً