منذ فترة كتبت مقالات كثيرة تحدثت فيها ومن خلالها عن الفساد الإداري المستشري وما يلحقه بطبيعة الحال من فساد مالي، ومن ممارسات إدارية لا أخلاقية ولا تربوية تعد صورة من صور الإقصاء والتهميش والتطنيش، وعبرت عنه في أكثر من محطة بأنه مرض إداري وبأنه سرطان يحاول أن يسيطر على كل الجسم لينال منه، واليوم أعبر عنه بأنه طاعون قاتل، لا من باب المبالغة ولكن من باب الوصف الدقيق والإنصاف في الوصف والتشخيص.
جاءتني الكثير من الرسائل ومن الردود والكثير الكثير من التعليقات بعضها جاءت بدافع الفضول ومعرفة المزيد من المعلومات التي لم أشأ أن أبيح عنها في مقالاتي السابقة على رغم معرفتي التامة بها، وبكل شاردة وواردة تحيط بها، فلم يكن التجريح أو التشهير واحدا من أهدافي.
فالأهداف التي أتمسك بها أكبر بكثير من أشهر بفلان أو علان ثم أنه لم أضطر حينها إلى ذلك وإلا لن أتردد في ذلك رغبة في إصلاح الإعوجاج الموجود وليكون المفسد عبرة لمن يعتبر ودرس له ولأمثاله.
كنت حينما تحدثت يوما عن مقالات باسم «إبداع في تطفيش الكفاءات، التشخيص والمعالجة» يعتبر الموضوع حالة عامة لأن هناك ما شاء الله من النماذج الصارخة التي ينطبق عليها المقال، ولكن للأمانة كنت أقصد من وراء المقال وزارة محددة وإدارة بعينها وشخوص معينة عايشتهم وتعرفت عليهم وتعايشت أيضا معهم ومع أمراضهم وأوجاعهم وأدركت تماما ممارستهم الإدارية السيئة للغاية وشعرت حينها بالألم والوجع وشعرت حينها بالكآبة وأحمد الله كثيرا لكوني تشافيت وتعافيت من تلك الآلام والأوجاع لأنني نفذت بجلدي من تلك الأجواء المسمومة المحمومة الملوثة.
ولكني مازلت أشعر بشيء من الحزن والكآبة لأنه لا يزال غيري ومن حولي يعانون من نفس الألم ومن نفس الوجع لطالما شربوا من نفس الكأس وما زال الخطر موجود بوجود الأشخاص المفسدة وبوجود الأنفاس الكريه المنفرة ولكن المتغير الوحيد فقط الضحية ففي كل مرة هناك ضحية أخرى ينال منها ويكون نصيبه المحتوم التهميش والإقصاء والتطنيش وهكذا اللعبة تدور وتدور.
لا أبالغ حينما أقول بأن المقال كان له صدى غير عادي بل أن البعض كان يلح على معرفة الحقيقة، بعدها جاء المقال الآخر الذي كان بمثابة القنبلة الموقودة «إعترافات خطيرة مجهولة المصدر، وبعدها «وما خفي كان أشد وأعظم».
لست هنا بمقام الترويج لما اكتبه وما كتبته، ولكن أودّ هنا أن أؤكد على الإداريين الذين لا يفقهون علم الإدارة ولا يعرفون فنونها وأساليبها، كل ما يملكونه من أدوات الإدارة سوى «التملك» سواء كان تملك المشاعر والأحاسيس أو تملك المواقف والاتجاهات أو تملك الكراسي والمناصب أو تملك الشخوص المهم الإدارة عندهم مساوية تماما لمفهوم التملك والتملك يعني أيضا تطفيش الكفاءات وتجاهلها وإقصاءها حتى لا يكون وجودهم سببا في فشل خططهم الكيدية والتملكية.
هؤلاء للأسف الشديد بسيطون وسطحيون فهم لا يعرفون على سبيل المثال بأن هناك من يفهم فيهم تلك التوجهات وتلك التطلعات السلبية ويجاملهم ويضحك في وجههم ولكنه أيضا يضحك عليهم ويسخر منهم في ظهر القلب.
أحد الزملاء الأعزاء قد واجه نفس المصير فقد جاء دوره ضمن سلسلة المهمشين والمقصيين فمنذ أسابيع قليلة تدهورت حينها نفسيته فقد أصبح مشتت الذهن ومذهول وغير مصدق لما يحدث حوله لكونه مؤهلا وذا خبرة طويلة وشخصا إداري وقدير، وعيبه الوحيد والذي جعله يعاني من صحة نفسية سيئة كونه متفائل ولكونه على نياته فهو طيب القلب، لم يكن يعرف حجم التهميش والإقصاء الذي ينتظره من زمان ولو كان كذلك، لما فكر في يوم من الأيام بالراحة والاطمئنان ولما عرف حينها التفاؤل والأمل، ولكنه اليوم وبعد الضربة القاسية وبعد أن أصابه مرض جرثومة التهميش والإقصاء عليه أن يكون أستاذا بلا معلم لكل من يملك في نفسه الأمل وهو يعيش مع الإقصائيين والعاملين على تطفيش الكفاءات لكونهم مبدعين في ذلك ومفلسين في أمور إدارية أخرى أهم بكثير من ذلك.
لهؤلاء قد أقول في قرارة نفسي لا لوم لهم ولكن اللوم كل اللوم، لمن يتركهم هكذا يعيثون في الأرض فسادا بلا حسيب وبلا رقيب، فالكفاءات الفالته لا يمكن استرجاعها، بنفس سهولة إقصاءها، فالجرثومة إذا ضربت تصيب مواقع كرامة الفرد وبعدها من الصعوبة بمكان إعادة التوازن النفسي.
أكرر من جديد الإبداع مفردة مهمة جدا وأبعادها غاية في الأهمية أيضا ولكن ليكن الإبداع الذي ننشده إيجابي المحتوى والمضمون ولنبتعد عن المضامين والمحتويات ذات التأثيرات السلبية لكي نضفر بالنتائج الإيجابية ولا نحصد النتائج القاصمة للظهر. فالإبداع في التجاهل والإقصاء أمر غير محبب ولا محمود ولكن الإبداع في المحافظة على الكفاءات والكوادر العاملة المخلصة لا بد أن يكون أحد أهدافنا الإدارية التي نسعى لتحقيقها نأمل إلا نضطر مجددا إلى الغوص من جديد لمثل تلك المواضيع، لأنه لا يزال هناك الكثير من المواضيع التي تستحق منا الوقوف عندها.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2344 - الأربعاء 04 فبراير 2009م الموافق 08 صفر 1430هـ