إن الديمقراطية السليمة والإصلاح القانوني مطلوب فعلا في البلاد، بل في أنحاء العالم كله، والحاجة الماسة كذلك في مجال العلاقة بين الدولة والمواطن، وفي ضرورة احترام خيارات المواطن لصيغ الحياة الدستورية والقانونية فيها، وفي عدم تدخل السلطة في خيارات الشعوب. إن الديمقراطية هي وجه من وجهي الحرية. وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنها ليست بديلة عن وجه الحرية الآخر. ولذلك فإن إنهاء أزمات فرض القوانين يكون في إنهاء كل أنواع هيمنة السلطة على بعض أعضاء السلطة التشريعية. حيث تثار ضجة في هذه الفترة حول قانون الأحوال الشخصية ما بين مطالب به ومعارض له وسبب هذه الضجة سوء الأوضاع في المحاكم الشرعية من تأخير للقضايا، وعدم إنصاف المتخاصمين وغير ذلك.
ولكن، إن المطالبة بتمرير قانون أحكام الأسرة لها أبعادها التي لا ينبغي إغفالها عند تحديد موقف من هذا القانون حيث إن المطالبين بهذا القانون ممن يزعمون أنهم دعاة تحرير المرأة، أو إصلاح المحاكم الشرعية، يلاحظ عليهم الطعن المبطن والصريح في بعض الأحيان للشريعة الإسلامية واتهامها بأنها ظلمت المرأة وأنها لم تعطها حقوقها، ولذلك دعوا إلى تركها والاستعاضة عنها بالقوانين الوضعية التي أنصفت المرأة وأعطتها حقوقها في وجهة نظرهم.
كما تذرع أحد المحامين حيث قال أن دين الدولة الإسلام فلا خوف من صدور قانون أحكام الأسرة لأنة سيكون مستمدا من الشريعة الإسلامية. يقول هذا المحامي يجب أن نؤكد أن تقنين الأحوال الشخصية محمي أيضا بنص دستوري وهو المادة رقم (2) من الدستور التي أكدت (أن دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) وهو ما يقطع بعدم دستورية أي نص في التشريع بما فيه قانون أحكام الأسرة يخرج عما هو مقرر في الشريعة الإسلامية. ولا تملك أية سلطة بما فيها السلطة التشريعية أن تقرر حكما مخالفا للشريعة الإسلامية، والتشريع يخضع لرقابة السلطة القضائية ممثلة في رقابة المحكمة الدستورية. وهو ما يبدد أي تخوف حول تقنين أحكام الأسرة. ولكن الواقع يخالف ما ذكره الأستاذ المحامي، ومما يدل علي ذلك أن القروض التي أقرت من قبل مجلس النواب كانت قروض ربوية، إضافة إلى كثير من التشريعات الموجودة في الدولة والمنصوص عليها بقوانين ومواد دستورية تخالف الشريعة الإسلامية، فقط للتذكير للأستاذ المحامي وكي لا يلتبس هذا المفهوم لدى العامة.
إن الخطورة تكمن في البدايات الخاطئة لهذا القانون فإصدار قانون لأحكام الأسرة اليوم على هيئة مواد قابلة للتغيير قد توصل إلى ما لا يحمد عقباه في مستقبل الأيام وهنا أسأل هل يصح تحويل الشريعة إلى قانون ذي مواد محددة على غرار القوانين الغربية الوضعية؟ هذا السؤال غير موجه للجمعيات النسائية ولا المحامين ولا للكتاب، وإنما هو موجه لأهل العلم الشرعي المشتغلين به من العلماء وطلاب العلم والدعاة والخطباء الذين يمثلون الشعب تحت قبة البرلمان من أهل السنة حيث الطائفة الجعفرية قد حسمت أمرها في هذا القانون بالطريقة التي تستوعبها السلطة التنفيذية. إن واجب المسلم ألا يقدم على عمل إلا وهو يعلم حكم الله فيه، وألا ينجز وراء ضغط السلطة الداعمة لهذا القانون، لذا فإن من الواجب على المسلم دراسة مسألة حكم تحويل الشريعة إلى قانون أولا قبل أن يتبني حكما معينا فيها، وإعادة النظر في المفاسد المترتبة على تقنين الشريعة التي منها:
- من مفاسد التقنين أن القاضي لا يحكم بالقسط الذي ظهر له والذي أمر الله به وإنما يحكم بما في مواد القانون وأن خالف ما ظهر من اجتهاد.
- إن الله سبحانه أمر عند التنازع بالرد إلى كتابه وسنة نبيه فقال «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا» وفي الرد إلى قانون أحكام الأسرة مخالفة لما أمر الله من الرد إلى كتابه وسنة نبيه.
- إن هذا الحجر والإلزام بقول مقنن أو رأي معين لم يسبق الحمل علية في صدر الإسلام ولا في القرون المفضلة، فلا يعلم من هدي الصحابة رضوان الله عليهم مع مشاركتهم في العلم والمشاورة مع بعضهم البعض، ألزم واحد منهم الآخر بقوله، بل المعروف المعهود بالنقل عنهم خلافه.
- القانون الذي يلزم به القاضي من وضع البشر ولا يسلم من الخطأ، إذ العصمة لا تتحقق إلا للأنبياء، فالإلزام بها إلزام بما يعتقد أنه بمجموعه ليس صوابا بل لا بد فيه من وقوع الخطأ. والخطأ خلاف الحق، وما هو خلاف الحق لا يجوز قبوله، وما لايجوز قبوله حرم الأخذ به، وما حرم الأخذ به فيحرم الإلزام به من باب أولى، فوجب منع فرضه إذا.
- إذا رأى القاضي في مسألة ما بخلاف ما في القانون بناء على ما علمه من الدليل، فإن عدل عن رأيه لا لمرجع ولكن لأنه ملزم به، كان حكما بغير ما يراه صوابا، وبالتالي يكون الحكم بما لا يعتقده دينا ولا شرعا. وإن لم يعدل عن رأيه نسب إلى مخالفة القانون. فأصبح تقديس القانون مقدم على تقديس النص الشرعي، وتجريم مخالف القانون وترك مخالف النص الشرعي.
- إن من تبين له الحق في أحد القولين أو الأقوال ثم تعداه إلى غيره لا لمرجح فهو ظالم لنفسه ولمن تعدى إليه حكمه.
كما أن هذا القانون سيشجع لإحلال القضاة المدنيين محل القضاة الشرعيين لاعتقاد من يسعى لإحلال هذا القانون على أرض الواقع أنهم أجدر من قضاة الشرع. ما سيترتب عليه تحويل المحاكم الشرعية إلى محاكم مدنية، مع العلم أن هذه المحاكم الشرعية لا يتحاكم إليها إلا في مسائل الطلاق والميراث وما يتعلق بهما، ومع ذلك يريدون إلغاء ما تبقى من التحاكم إلى الشريعة ولو كان في المسائل الشخصية كما يقولون. ومن الأحكام الشرعية التي ألغيت أو قيدت بقيود لم يأذن بها الله، مثل منع تعدد الزوجات، وتحديد الزواج بسن معين، وإلغاء الطلاق الشفوي، وغير ذلك. وهنا أقول بأننا لسنا ضد أصلاح القضاء وإنصاف المتخاصمين وخصوصا في القضايا الشرعية ولكن عند تقنين الشريعة هذا ما يخالفه جمهور العلماء. إننا في حاجة إلى إصلاحات جذرية في المحاكم الشرعية ولكن ليس بسن قوانين وتقنين الشريعة. ولكن بزيادة عدد المحاكم والقضاة وتأهيل القضاة بإيجاد معهد قضائي لتهيئتهم وإيجاد المختصين من اختصاصيين نفسيين واجتماعيين ومتخصصين في الاقتصاد الاجتماعي، ومن الأولى إجراء الدراسات والبحوث المتعلقة بالتفاسير الشرعية وشروط الاجتهاد وتقديم المقترحات الخاصة بمعالجة أوجه القصور وتطويرها وتحديثها بالتنسيق والتعاون مع الجهات ذات العلاقة. وأعداد مشروعات القوانين الإجرائية والموضوعية الخاصة بتطوير أداء أجهزة السلطة القضائية، والتحقيق في المخالفات القضائية في المحاكم وأخذ الاجراءت التأديبية بموجب القوانين واللوائح والقرارات النافذة إن وجدت، كما ذكرت سالفا لقد حسمت الطائفة الجعفرية أمرها في هذا القانون ولكن الغريب بأن هناك توجه لسحب هذا القانون من قبل الحكومة وتقديمه مرة أخرى بصبغته السنية! وهنا يكمن التمييز في إصدار القوانين إن تم تطبيقه على جزء من المجتمع. وإذا تم ذلك أقول إن النزعة السياسية العامة لدى السلطة التنفيذية تكمن بالتركيز على مقدرة الحلقة الأضعف المشاركة تحت قبة البرلمان الساعين إلى تجديد ولايتهم وإرضاء غيرهم حتى لو كان على حساب ناخبيهم وعلمهم، وبين التوجهات المطلوبة وبحصرها في موضوع التغيير والاستمرار إلى جانب النظرية السياسية كنشاط فكري أو مصلحي متبادل.
كما ترى السلطة التنفيذية التحديث السياسي والقانوني خاتمة لكل الأبواب، حيث السلطة السياسية لها الحق المشروع والمقبول لدى بعض الأطراف الموجودة تحت قبة البرلمان في استخدام الإكراه، الذي تبنى وتؤسس عليه علاقة الأمر والطاعة، ولكن ليس على حساب الشريعة فلنحافظ ونطور ما تبقى من التحاكم الشرعي في حياتنا كمجتمع مسلم.
إقرأ أيضا لـ "سلمان ناصر"العدد 2343 - الثلثاء 03 فبراير 2009م الموافق 07 صفر 1430هـ