لمفهوم الاعتراف أهمية كبيرة في التعددية الثقافية، إلا أن هذا المفهوم تعرّض لانتقادات كثيرة جاءته من جهات عدة. فهناك انتقاد ليبرالي شائع، وخلاصته أن مفهوم الاعتراف يقود إلى تسييس الجماعات ومطالبها، لأنه يطالب بحقوق خاصة لكل ثقافة ولكل جماعة، في حين أن «الثقافة ليست، ببساطة، نوعا من الكيانات التي يمكن أن نعزو لها حقوقا على نحو صحيح»، بل الحقوق ينبغي أن تعزى للأفراد لا للجماعات.
إلا أن النقد الأهم الذي وجِّه لمفهوم الاعتراف إنما جاء من جهة اليسار، وخلاصة هذا النقد أن سياسات الاعتراف مصابة بالعمى عن التحليل الاقتصادي والاجتماعي، وبحسب راسل جاكوبي، فإن هذا النوع من العمى جعل من مفهوم الاعتراف مجرد «ثرثرة ذات طابع سيكولوجي، إنه الصياغة الفلسفية لذلك الهذر الخاص بتقدير الذات، مطبقا على الثقافات ككل. إن ما يشوّه الناس هو عدم وجود وظائف أو وجود وظائف سيئة، والمجتمعات المنهارة، والعلاقات الإنسانية الرثّة، والتعليم القاصر، لا «الاعتراف الخاطئ» مهما كان معناه» (نهاية اليوتوبيا، ص76).
وهذا النقد الذي يوجّهه راسل جاكوبي لمفهوم الاعتراف مستمد، في جوهره، من مراجعة نانسي فريزر التي يصفها جاكوبي نفسه بأنها «منظرة سياسية مرموقة». ولنانسي فريزر مقاربة تسعى فيها إلى «إعادة التفكير في الاعتراف»، وهي تذهب إلى أن الاعتراف ينطوي على مشكلتين أساسيتين: الأولى أنه سيقود إلى تقسيم المجتمع وترويج التعصب بين الجماعات، والثانية أنه يقدم نفسه كحل كافٍ لمشكلة الظلم والتمييز بمعزل عن مطالب العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة في الدولة، هكذا وكأن الظفر بالاعتراف سيضع حدا لكل المظالم الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع. وبحسب فريزر فإن سياسات الاعتراف تفترض أن «لبّ المشكلة يكمن في خطابات عائمة بحريةٍ، وليس في المعايير والأهمية المؤسساتية» (rethinking Recognition, p.110)، بمعنى أن جوهر المشكلة، بحسب سياسات الاعتراف، يكمن في الثقافة وخطاباتها وتمثيلاتها التي تختزل الناس حين ترفض الاعتراف بهم، أو حين تعترف بهم بصورة خاطئة، في حين أن الظلم الذي يقع على الناس هو، في الأصل، واقع له جذور مؤسساتية اقتصادية واجتماعية، ولرفع هذا الظلم فإن على الجماعات المهمشة أن تطالب بسياسات إعادة التوزيع أكثر من الاستغراق في مطالب سياسات الاعتراف؛ لأن «فكرة المجتمع «الثقافي» الخالص بمعزل عن علاقات الاقتصاد - وهي الفكرة التي فُتنت بها أجيال من الأنثروبولوجيين - هي أضعف من أن تأخذنا بعيدا عن الواقع الراهن» (p.111) المحكوم بعلاقات اقتصادية ومؤسساتية غير عادلة. وفي نقد موجه إلى مفهوم تايلور عن الاعتراف، تذهب فريزر إلى القول بأن «الاعتراف ليس مجرد تشويه سيكولوجي ولا هو أذى قائم على أساس ثقافي، بل هو علاقة مؤسساتية تنطوي على الإخضاع الاجتماعي». وتتناول فريزر قوانين الزواج بما هي علاقة مؤسساتية تقوم على الإخضاع الاجتماعي، فهذه القوانين، كما تذهب فريزر، لا تقوم على المعاملة المتساوية بحق الشاذين جنسيا والسحاقيات. وبحسب فريزر فإن جذور هذا التمييز تكمن في المؤسسات والقوانين التي تتعامل مع «ذوي الميول الجنسية الغيرية على أنهم النموذج، فيما تجري معاملة المثليين على أنهم فاسدون ومنحرفون. ويتطلب إصلاح هذا الظلم القيام بعملية تفكيك لتلك المؤسسات التي تمنح النموذج قيمته، وإحلال البديل الذي يرفع من قيمة التكافؤ محله»، ويمكن لهذه العملية أن تتم بطرق عديدة، من بينها المطالبة بتشريع الزواج بين المثليين، والمطالبة بتعديل الأنظمة الاجتماعية وأنظمة التأمين الصحي لتشمل الزواج الغيري والمثلي سواء وبسواء. ومع هذا فإن فريزر لا تطالب بالتخلي الكامل عن سياسات الاعتراف، بل بإعادة التفكير فيها وإدماجها ضمن سياسات إعادة التوزيع بحيث نكون أمام «سياسات اعتراف بديلة» تحقق العدل، وتحفظ التعددية الثقافية من أن تتحول إلى «جماعيّة قمعية».
هناك من ينتقد مفهوم الاعتراف لأنه يؤسس لنوع من «الجماعية» التي تتعامل مع «الثقافة» على أنها «شيء» و»موضوع» مرسّم الحدود وواضح المعالم. وبناء على هذا يجري التعامل مع «الجماعات الثقافية كما لو كانت كيانات محددة ومعرَّفة من خلال معيار ثابت لأعضاء الثقافة المتجانسين». وينطوي هذا النوع من التعامل على تقدير مبدئي للثقافة والجماعة، فالثقافة جيدة بصورة مبدئية لدى تايلور والتعدديين الثقافيين، وهي، فوق ذلك، كيان متجانس وموحد وثابت، في حين أن الناس المنتمين لجماعة من الجماعات أو لأقلية ثقافية أو إثنية لا يمتلكون بالضرورة «الآراء والإمكانيات ذاتها». سبق لتشارلز تايلور أن انتقد الليبرالية بسبب «عماه عن الاختلافات» difference-blind، وهنا يُوجَّه النقد إلى تايلور نفسه لعماه عن التنوع والاختلاف داخل الجماعة الواحدة وداخل الثقافة الواحدة، وكذلك لعماه عن التنوع في الانتماء ذاته. فإذا كان صحيحا أن الناس ينتمون إلى ثقافة ما، فإن الصحيح، كذلك، أن الناس «يمكن أن يتحركوا خارج الثقافة الاجتماعية، ويمكن أن ينتموا للكثير من الثقافات الاجتماعية وبصورة متزامنة، كما يمكنهم أن يغيّروا هذه الثقافات في بعض نقاط حياتهم، وربما كانت لهم مشاركة جزئية في الممارسات الثقافية». كل هذا يعني أن حدود الثقافات والجماعات ليست ثابتة بل متحركة ونشطة ومتفاعلة ومتنافسة، وهي في صيرورة مستمرة، كما أن الافتراض بأن الجماعة منسجمة وثابتة بالضرورة، افتراض لا ينهض إلا على العمى عن التنوع داخل الجماعة ذاتها، وعلى تجاهل إمكانية التعدد في الانتماء لأكثر من جماعة في الوقت ذاته، أو حتى عدم الانتماء لأية جماعة، أو الانتماء للجماعة بصورة جزئية.
يقود العمى عن التنوع في الانتماء وداخل الجماعة إلى التعامل بصورة جوهرانية مع الجماعة والثقافة والهوية، وهذا العمى لا يكترث بـ «الهويات المتقاطعة» التي تنطوي عليها شخصية كل واحد منا.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك من منظري التعددية الثقافية من انتقد مفهوم الاعتراف لدى تايلور، ومن أبرز هؤلاء بيخو باريخ الذي يوافق مع تايلور على أهمية مطلب الاعتراف بالنسبة للأقليات والجماعات المهمّشة، إلا أنه ينتقد «الرؤية الليبرالية الساذجة» التي تنطوي عليها مقاربة تايلور لكيفية حصول الجماعات المهمشة على الاعتراف، وبحسب باريخ فإن تايلور يرى أن ذلك يتم من خلال اقتناع الجماعة المهيمنة، وبصورة عقلانية، بتغيير رؤيتها تجاه هذه الجماعات من خلال المناقشة الفكرية والمطالب الأخلاقية». وهذه رؤية، بحسب باريخ، تسيء فهم «دينامية عملية الاعتراف» أو عدم الاعتراف، والتي تقوم على أسس ثقافية ومادية في الوقت ذاته، ولهذا فهي تتطلب نقدا قاسيا لتصورات الجماعة المهيمنة، وفي الوقت ذاته، تتطلب إعادة هيكلة راديكالية للتغلب على اختلال المساواة في السلطة السياسية والاقتصادية. وعندئذٍ لن يكون «الاعتراف هدية تمنح بصورة إرادية، ولا هو عمل من أعمال الرحمة، بل هو حاجة تتطلب الكفاح الذي قد يتضمن نزاعا سياسيا وثقافيا، وحتى العنف أحيانا كما يشدد هيغل في تحليله لجدلية الاعتراف، والذي تتجاهله نسخة تايلور المعقّمة عن الاعتراف». المطلوب، إذن، هو تجاوز النسخة المعقّمة من الاعتراف.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2342 - الإثنين 02 فبراير 2009م الموافق 06 صفر 1430هـ