أول المظاهر البنيوية للأزمة مصدرها جنسية العملة الدولية المتداولة في المعاملات الدولية، تجارية كانت أم استثمارية، والتي هي الدولار الأميركي. تكفي الإشارة هنا إلى أن معظم السلع الاستراتيجية، ومن بينها النفط والغاز الطبيعي، يتم تسعيرها بالدولار الأميركي. هذا يعني أن أية أزمة تحيط بالدولار تنتقل عدواها، بشكل مباشر وآني إلى العملات الأخرى، ومن ثم على الاقتصادات العالمية الأخرى. يزداد الأمر سوءا عندما تكون أزمة الدولار مصدرها أزمة ملمة بالاقتصاد الأميركي ذاته، وهو ما نشهده اليوم في آلية الاقتصاد الأميركي. حينها يكون التأثير الذي يستورده العالمي مضاعفا من جهة وذا طبيعة مركبة من جهة ثانية. وينبغي أن نعيد إلى الذاكرة وقوف أميركا بشدة، مستخدمة كل أسلحتها وعناصر نفوذها الاقتصادية والسياسية، وبشدة في وجه كل محاولات أي تحول عن الدولار كعملة عالمية. وأكثر من عانى من ذلك التوجه هي الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» عندما حاولت في السبعينيات من القرن الماضي بناء سلة من مجموعة من العملات، من بينها الدولار، لتسعير النفط.
لذا فإن أية محاولة للخروج من هذه الأزمة البنيوية ينبغي أن تكون مبنية على نظام عملات متعددة وهو الأمر الذي شخصه ودعا إلى العمل به رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الذي ألقاه في منتدى دافوس وقال فيه «إنه من الخطورة بمكان بالنسبة للعالم أجمع أن يعتمد اعتمادا زائدا على الدولار الأميركي كعملة احتياطية، (داعيا) إلى اعتماد مجموعة من العملات بدل الدولار،(متوقعا) ظهور عدد من العملات المحلية القوية في المستقبل».
هذه الدعوة الروسية إلى خلق مراكز دولية لعملات مختلفة، انعكست في خطابات الكثير من رؤساء ومسؤولي دول الأسواق الناشئة مثل الصين وروسيا، وأخرى ذات العلاقة السيئة مع واشنطن، مثل فنزويلا. من الأهمية بمكان أن القول بتهاوي النظام القائم وبروز بديل عنه، ليست عملية سهلة، ولا تلقائية، إنها عملية معقدة تتطلب الكثير من البحث والدراسة من جهة، والاتفاق والتعاون بين الدول التي تدعو لها من جهة ثانية. فبالقدر الذي يمكن تشخيص الأزمة علميا، لكن انتشال العالم مما هو فيه أو مقدم عليه، بحاجة إلى اتفاق سياسي قبل أي شيء آخر، وهذا مصدر الصعوبة، وسبب نجاح الولايات المتحدة واستمرارها في الإمساك بزمام الأمور، رغم الأزمة التي تعصف بها.
المظهر الثاني من مظاهر الأزمة البنيوية تتمثل في الشيخوخة التي دبت في أوصال المؤسسات الدولية التي بدأت عليها أعراض تقدم في السن غير قابل لأي شكل من أشكال العلاج. هذا الأمر يشمل القوانين والأنظمة والصناديق العالمية والمؤسسسات المالية الدولية من نمط تلك المنبثقة عن الأمم المتحدة ومنظماتها المختصة. يشير إلى شيخوخة هذه المؤسسات بشكل جلي نائب رئيس الوزراء وزير المالية الروسي أدلى الكسي كودرين حيث يقول، في مقابلة نشرها موقع روسيا اليوم (http://rtarabic.com/prg_actual/22206 ) « نحن على ثقة أن النظام الراهن للمؤسسات الخاصة بتنظيم الأسواق المالية غير متقن. لا بد لنا من تعديل هذه المؤسسات، لا من حيث وظائفها ومتطلباتها تجاه الأسواق المالية فحسب بل من حيث تمثيل الدول في مجلس المدراء» .
وقبل المسأول الروسي كانت هناك تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الواضحة عن ترهل منظمات الأمم المتحدة مثل صندق النقد الدولي، الذي، وحسب أنان كان «حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي من أقوى المؤسسات الدولية التي تثير الرعب في قلوب عدد من وزراء الاقتصاد في العالم. وكان الصندوق مثالا قويا على النفوذ بين نخبة المؤسسات الدولية. أما اليوم، فأصبح مؤسسة تعمل في فراغ، حيث الطلب قليل أو معدوم على خدماته، مما جعله دائم البحث عن دور يقوم به»
في السياق ذاته، يمكن الإشارة إلى دعوات «العولمة» التي روج لها كثيرا النظام الأميركي، بل إن فيلسوفا مثل فوكوياما الذي بشر بـ» نهاية التاريخ» متفائلا ببروز عالم جديد تتربع فيه الولايات المتحدة، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، على قمته. وتطورت تلك التصورات كي تتبلور فيما أصبح يعرف اليوم بظاهرة العولمة. صمود نظام العولمة هذا هو اليوم أمام مساءلة جادة من الكثير من المؤسسات التي كانت في يوم من الأيام مؤمنة به. لقد وأدت الحروب التي شنتها الولايات المتحدة ضد دول صغيرة مثل أفغانستان والعراق، كي تدق أول المسامير في نعش نظام العولمة وتمهد لدفنه في مرحلة مبكرة من حياته.
بيوتر دوتكوفيتش من جامعة كارلتون الكندية البروفيسور بيوتر يؤكد ذلك بالقول إن «العولمة التي كانت موجودة سابقا لم تعد موجودة الآن. والأزمة المالية خير دليل على ذلك. إن المشكلة الأساسية تكمن في أن بعض البلدان احتلت مكانة متميزة في العولمة وأصبحت تسيطر فيها. ونحن الآن ندخل عصر ما بعد العولمة. يجب خلق نظام جديد يقود إلى ترسيخ الاستقرار في العالم.»
هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى الاقتصادي، فقد جاءت الأزمة المالية الأخيرة وترنح الاقتصاد الأميركي، أكبر مروج لنظام العولمة، كي يضع حدا لكل الدعوات التي حاولت الترويج له. إن مقومات نظام العولمة، وعلى وجه الخصوص في نطاقها الاقتصادي الذي يرتكز على أحادية اقتصادية معافاة، تتمحور حول الاقتصاد الأميركي تهاوت مع سقوط ورقة التوت عن عورات ذلك النظام ومؤسساته.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2339 - الجمعة 30 يناير 2009م الموافق 03 صفر 1430هـ