سوف لن يكون الحديث هنا بشكل مباشر (الوعظ الفوتوغرافي) عن الانتهاك الهمجي من قبل العدو الصهيوني على غزة فقد قيل قديما التلميح أبلغ من التصريح والشرط أو الأداة السيكولوجية في هذه المحطة أن ينهي القارئ المقالة حتى النهاية ضمانا للشحن والتعبئة الروحية ويتكامل الإحماء الوجداني. فبالرجوع إلى لفظ (الفزعة) يقول العلامة ابن منظور في لسان العرب فَزِعَ إِلى القوم: استغاثهم. وفَزِعَ القومَ وفَزَعَهم فَزْعا وأَفْزعَهم: أَغاثَهم. وفَزِعَ إِليه: لَجَأَ، فهو مَفْزَعٌ لمن فَزِعَ إِليه أَي مَلْجَأٌ لمن التَجَأَ إِليه.
قال زهير: إِذا فَزِعُوا طارُوا إِلى مُسْتَغِيثِهمْ، طِوالَ الرِّماحِ، لا ضِعافٌ ولا عُزْلُ
وقال الشاعر: إِذا ما فَزِعْنا أَو دُعِينا لِنَجْدةٍ لَبِسْنا عليهنّ الحَدِيدَ المُسَرَّدا
وفي الحديث: أَنه فَزِعَ أَهلُ المدينة ليلا فركب النبي - (ص) - فرسا لأَبي طلحة عُرْيا فلما رجع قال: لن تراعُوا، إِني وجدته بحرا؛ فمعنى قوله فَزِعَ أَهل المدينة أَي اسْتَصْرَخوا وظنوا أَن عدوّا أَحاط بهم، فلما قال لهم النبي (ص): لن تراعوا، سكن ما بهم من الفَزَع. يقال: فزِعْتُ إِليه فأَفْزَعَني أَي استغثت إِليه فأَغاثني.
وفي موروثنا الديني والأخلاقي مفاضلة لبعض الأعمال على سبيل المثال الاعتكاف له في الإسلام فضل عظيم وأجر كبير كيف لا وقد فرغ المسلم لربه وانقطع عن ملذات الدنيا. لكن من يقضي حوائج الناس ويغيث الملهوف أجره أعظم من المعتكف قال الرسول (ص) «من مشى في حاجة أخيه كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين» وقصة نبي الله موسى عليه السلام في القران تقدم انموذجا رائعا لأصحاب النجدة والمروءة الذين لا تسمح لهم شيمهم بالتفرج والتردد في العون والمساعدة فعندما فر موسى عليه السلام هاربا من بطش فرعون ثم ورد ماء مدين فوجد الناس يسقون ووجد امرأتين قد تنحيتا جانبا تنتظران أن يفرغ الرجال حتى تسقيا فلما عرف حاجتهما لم ينتظر منهما طلب المعونة والمساعدة وهو (الشهم الكريم) بل بادر وسقى لهما.
ونظرا لعدم اكتمال دائرة النضج بين الأخلاقي والتاريخي في قضية الفزعة وخصوصا إذا عرفنا أن هناك قضايا عالقة كقضية اللاجئين العرب والهجرة التي طالت 4 ملايين عراقي و800 ألف لبناني ونصف مليون صومالي وأكثر من مليون سوداني. لذا فلن أتحدث عن ساحة الألم الإنساني
غزة... كما إنني لن أتحدث عن هجرة 5000 ألاف طبيب عربي سنويا بالإضافة إلى 70 ألف متخرج. وقد تبدو السطور حزينة إذا قلت إنه يوجد ما يزيد على مليون (PHD) من أصل عربي بأوروبا وأميركا وأن عدد الأطباء المتخصصين من دول عربيه بدول (DECD) بلغ رقما خياليا54,000 ألف وهذا الرقم يعادل العدد الإجمالي للأطباء العاملين بـ(9) دول عربيه ناهيك عن الحديث حول هجرة شباب المغرب العربي في ما يعرف بـ «قوارب الموت».
أتعهد للقارئ بأن أتوقف في محطة فكرية أخرى لكي أقوم بالتفريق بين المهاجر والنازح واللاجئ من خلال اتفاقية 1951م. لكنني هنا بصدد شحن المنظومة الأخلاقية في حسن الجيرة والنخوة والفزعة وإغاثة الملهوف. إنني وإياكم على موعد مع المشرك الشهم الشخصية العملاقة مطعم بن عدي.
تاريخياُ وبعد أن فشلت قريش في استرداد المهاجرين المسلمين من الحبشة عقدت اجتماعا واعتمدت أسلوبا جديدا في مواجهة المسلمين وهو (المقاطعه) لبني هاشم وبني عبدالمطلب وجاء في صحيفة المقاطعه ما نصه (باسمك اللهم على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لاينكحوا إليهم ولاينكحوا ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمدا فيقتلوه). استمرت المعاناة والناس تتفرج على معاناة بني جلدتهم وطالت أيام الحصار واشتدّ الأذى بالمحاصرين في شعب أبي طالب واستمرت المقاطعة قرابة ثلاث سنوات حتى أن المطعم بن عدي ذات يوم وقف بقريش وقال «إنكم فعلتم بمحمد ما فعلتم فكونوا اكف الناس عنه» ولم يغمض لهذا الرجل جفن فعمد إلى التفكير في طريقة لرفع المعاناة فبادر (المطعم بن عدي) إلى إقناع بعض رجالات قريش بضرورة نقض الوثيقة وتمزيقها وإنهاء المقاطعة من خلال مبادرة شعبية. تواعد مع رجال خمسة على اللقاء ليلا بأعلى مكة واجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام بتمزيق الصحيفة (هذه النخبة لم تنتظر قرارات هيئة الأمم ولا رأي مجلس الأمن) وعند الموعد لبس المطعم ورفاقه السلاح واتجهوا إلى الشعب وخرج بنو هاشم وبنو المطلب إلى مساكنهم ولم يسع قريش أن تفعل شيء أمام عزيمة الرجال حتى علق أبو جهل على الحادثة قائلا: هذا أمر قضى بليل.
نعم باب التغيير مرتع خصب وكبير وثماره أكبر وأعظم وكبار النفوس لا ترتضي المكوث في موقعها تتراكم عليها أغبرة الزمن لا تحرك ساكنا لدفع ركام التخاذل والصمت فلو كان المطعم بن عدي اليوم بيننا لمزق العديد من صحف المقاطعة التي تمارس بخفاء في واقعنا ولنبذ ذلك الاعتراك الجانبي والتحزبات الذي تعيشه فئات عديدة في مجتمعاتنا. اليوم تهتز المفاهيم وتتبدل صورة الفزعة كنموذج مشرف في ثقافتنا وتستبدل لنصرة شيخ القبيلة ورموز السلطة حتى وإن كان ظالما فتنتصر للظالم وتتجاهل المظلوم لأن النخوة في هذه المرحلة تقوم على الانفعال لا على العقل والضمير الإنساني الأصيل. إننا أيها الإخوة في هذه المرحلة لم نعد متصلين بماضينا ومواقف الإبطال في تراثنا العربي والإسلامي وفي الوقت نفسه لسنا متواصلين مع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان كأن نفزع للمظلوم وحقوقنا عبر المسيرات الحضارية السلمية التي توزع فيها الورود أو من خلال حمل الشموع تعبيرا عن الرفض والممانعة تماما كما يتم في المجتمعات التي ترسخت فيها أدوات وتقاليد المجتمع المدني ومؤسساته.
الدرس الآخر الذي يمكن رصده ومن خلال المشهور في السيرة أنه (عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام) لما خرج إلى الطائف دعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه حيث بدأ بأقرب القبائل وأكثرها قوة وثراء وهي ثقيف التي رفضت دعوته.
وأكثر من الرفض قابلوا دعوة الرسول (ص) بالسخرية وأغروا سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمونه بالحجارة حتى شجت رأسه وأثخنت قدماه بالجراح. وبمنطق العصر السياسي فإن ما فعله الرسول (ص) في الطائف يمثل انقلابا واستعانة بدولة خارجية ضد نظام مكة. وقد شعر الرسول(ص) بذلك لهذا قبل دخوله مكة بعث (ص) إلى بعض الوجهاء والزعماء في مكة يستجيرهم ويطلب حمايتهم وكان منهم الأخنس بن شريف وسهل بن عمرو فلم يتفاعلوا معه ولم يجيروه لكن الذي قبل بذلك هو البطل الشهم المطعم بن عدي.
فأرسل النبي (ص) مبعوثه وأوصاه قائلا: اذهب للمطعم بن عدي وقل له إن محمدا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ قال المطعم بن عدي: نعم فليدخل. فأصبح المطعم بن عدي وقد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد فلما رآه أبو جهل قال: أمجير أم تابع؟ قال بل مجير قال أبو جهل: قد أجرنا من أجرت. فدخل الرسول (ص) مكة تحت حماية المطعم بن عدي وهو مشرك وقد مات مشركا لكنه شهم لذا روي أن الرسول (ص) قال في حقه «أنت الرجل الذي لاتخفر- لا تنتهك- ذمتك».
من المؤسف أن تندثر الفضائل في حياتنا الاجتماعية ويخيم الجبن واللامبالاة على النفوس وأن لا تبقى من الوجاهة الاجتماعية إلا أن يعلق البعض في مجلس بيته شجرة العائلة ليبرهن أنه من أسرة آل مطنش للمجتمع أو من قبيلة المتعجرف حتى النخاع وكأننا نعيش في عصر ما قبل الدولة. الوجاهة الاجتماعية ليست تراتبية موروثة أو ركوب مجاني على منصة الشرفاء إنها موقف وتضحية من أجل مبادئ وقيم إنسانية سامية أو كما علق أحد الأدباء (ما فائدة شجرة عائلة لا تثمر).
الدروس الأخلاقية عديدة ومتنوعة وسوف أترك للقارئ مساحة للاستنتاج والتحليل لكن من بينها ذكر مناقب الناس وأن كانوا كفاراَ أو مشركين بل إن أحد الصحابة (رضي الله عنهم) وهو حسان بن ثابت قال قصيدة يرثي بها المطعم بن عدي بعد موته؟ صحابي يرثي كافر!.
السؤال هنا ماذا عن العديد من الشعوب الغربية والأجنبية التي تحتضن ملايين العرب والمسلمين فهل نذكر محاسنهم ؟ (سبق وأن كتبنا عن المناضلة الأميركية راشيل كوري التي سحقتها الدبابات الإسرائيلية وهي تدافع عن أهلنا في الأرض المحتلة) لا بل على مستوى مجتمعاتنا هل نذكر محاسن من نختلف معهم من الأفراد والجماعات في الوطن أو الدين أو الجنس؟. ماذا لو أن شاعرا مسلما رثى كافرا بقصيدة وذكر أخلاقه وشهامته؟ هل نعيش أخلاقيات الاختلاف ؟ يقول سعيد بن المسيب «ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن نذكر عيوبه فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله».
الدرس الختامي وهو بعد انتهاء معركة بدر الكبرى عندما تحقق النصر المبين للمسلمين حينها تمكن المسلمون من القبض على سبعين أسيرا من المقاتلين المشركين، أقول: مقاتلين ومشركين؟ في تلك اللحظات الحاسمة أطلق الرسول (ص) وهو النموذج العالمي للتسامح عبارته المشهورة «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له». نعم إنه الوفاء وتعزيز مكارم الأخلاق وتقدير أهل المروءة وأصحاب الفزعة والنخوة كيف لا وهو الذي منح الرسول (ص) حق اللجوء وكسر الحصار عن أبناء جلدته في شعب أبي طالب ولم ينتظر الإذن من قريش. نماذج زاهرة تتجاوز زمانها تعيد شحن النفوس لها فعل اللقاحات المعنوية في غرس الفضيلة
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 2337 - الأربعاء 28 يناير 2009م الموافق 01 صفر 1430هـ