حسابات الثنائي تسيبي ليفني - إيهود باراك العسكرية لم تتوافق مع الطموحات السياسية بشأن تأمين غالبية تضمن الفوز بالانتخابات الإسرائيلية التي ستعقد دورتها في 10 فبراير/ شباط المقبل. فالثنائي اتخذ قرار العدوان على قطاع غزة بتأييد من رئيس الوزراء المنتهية ولايته إيهود أولمرت وبتغطية شاملة من إدارة جورج بوش التي كانت تستعد لمغادرة البيت الأبيض.
العدوان على غزة كان يستهدف مجموعة نقاط منها يتصل بالموضوع الفلسطيني ومنها ما يتعلق بالشأن الإسرائيلي. فمن الجانب الفلسطيني أراد الثنائي تحطيم البنية التحتية للقطاع وتقطيع أوصال غزة وإنزال أكبر خسائر بشرية في الأهالي وزيادة الانقسام بين الفصائل وتوسيع رقعة الخلافات العربية تحت ذريعة وقف إطلاق الصواريخ. ومن الجانب الإسرائيلي طمح الثنائي أن يحسن العدوان من فرص الفوز بالانتخابات ما يؤدي إلى تمديد فترة الحكم الحالي مدة زمنية كافية للتفاوض مع السلطة الفلسطينية تحت سقف إدارة أميركية جديدة.
الحسابات العسكرية لم تتطابق مع الأهداف السياسية بعد أن أخذت الاستطلاعات تعطي أشارة تخالف تلك الطموحات الحزبية الانتخابية. فالرأي العام الإسرائيلي الذي وقف في بداية العدوان مع سياسة الثنائي ودعمه بغالبية شعبية كاسحة بدلت الكثير من الموازين والتوقعات أخذ يراجع حساباته ومواقفه بناء على قراءات متطرفة في رؤيتها العنصرية والإلغائية والاستعلائية.
الاستطلاعات تشير إلى أن الغالبية النسبية من الجمهور الانتخابي سيعطي أصواته لتجمع «الليكود» وزعيمه بنيامين نتنياهو وحليفه حزب «إسرائيل بيتنا» ما يعني أن القوى المغالية في عنصريتها وكراهيتها وتطرفها ستكسب ما يكفي من مقاعد تضمن لها تشكيل الحكومة الائتلافية المقبلة. كل الاستطلاعات تقول إن «الليكود» سيحصل على مقاعد يتراوح عددها بين 28 و30 وحليفه «إسرائيل بيتنا» سينال بين 14 و16 مقعدا الأمر الذي يعطيهما غالبية ائتلافية مريحة نسبيا قد تصل إلى 62 و64 مقعدا.
في حال جاءت النتائج متوافقة مع توقعات الاستطلاعات تكون ليفني خسرت ما كسبته من شعبية فائضة في الأسبوع الأول من العدوان كذلك يكون حليفها وغريمها باراك حافظ على مواقعه السابقة من دون التوصل إلى تعديل التوازن الذي كان يطمح إليه. فالاستطلاعات تعطي حزب «كاديما» بين 24 و26 مقعدا وحزب «العمل» بين 16 و18 مقعدا ما يحرمهما تلك الغالبية المطلوبة لتأليف حكومة ائتلافية تتشكل من أحزاب صغيرة يرجح أن تأخذ مقاعدها التقليدية في الكنيست.
الترجيحات تشير إلى أن نتنياهو عائد إلى رئاسة الحكومة على رأس تشكيلة وزارية شديدة التطرف والعنصرية تضم تلك الأصوات الكريهة التي طالبت حكومة أولمرت بضرب غزة بقنبلة نووية وإبادة سكان القطاع ومسحه من الخريطة. وهذا النوع من التفكير الاقتلاعي (الإبادة الجماعية) الذي يبدو أنه يمتد شعبيا ويأخذ مواقعه في القاموس السياسي سيكون له تأثيره السيكولوجي في تطوير لغة الخطاب الذي يطالب بطرد الفلسطينيين من الأراضي المحتلة في العام 1948 وتجريدهم من حقوقهم المدنية وترحيلهم إلى الأردن أوما تبقى من الضفة والقطاع.
حتى الآن لم يتحول ذاك الخطاب الشعبوي إلى سياسة إسرائيلية رسمية معلنة ولكن المناخ العام الذي يغلف إيديولوجية الأحزاب الصهيونية المتنافسة على كسب الرأي العام في المعركة الانتخابية أخذ يضغط باتجاه تعزيز هذا التوجه الشارعي وإدراجه في خطط الحكومة المقبلة وبرامجها التوسعية والاستيطانية.
الأكثر تطرفا
لغة التطرف ارتفعت وتيرتها بعد تجميد عدوان غزة وبدأ الخطاب الشعبوي الذي أيد الثنائي في هجومه التقويضي يتشدد في قراءة النتائج والتداعيات. فالأحزاب العنصرية والمتشددة في رؤيتها «القومية» و«الدينية» لا تزال صغيرة ولكنها أصبحت تحتل مواقع مهمة في تقرير سياسة الدولة في اعتبار أن الأحزاب الكبيرة تحتاج إليها لتأمين الغالبية العددية (النصاب القانوني) في الكنيست. وبسبب هذا الوضع أصبحت الأحزاب الرئيسية الثلاثة (الليكود، كاديما، العمل) تخضع نفسيا لتلبية رغبات ايديولوجية دفينة تطمح بطرد الفلسطينيين أو عزلهم أو ترحيلهم بذريعة ضمان استقرار الدولة وحماية هويتها «اليهودية» من الضياع والتبخر مع مرور الزمن. وبدأ هذا الضغط السيكولوجي يترجم نفسه في تصريحات متباعدة أطلقها الثنائي ليفني- باراك قبل العدوان وخلاله لتأكيد التزامه بالصفاء الديني للدولة اليهودية. إلا أن الحسابات الانتخابية فشلت في اختراق الطبيعة الاستيطانية للكيان العبري حين عاد الشارع إلى مواقعه السابقة ولم تنجح تلك التصريحات في كسب أصوات الناخب الذي رفع سقف مطالبه.
المسألة إذا دخلت منطقة الخطر المخيف وربما تتجاوز الخط الأحمر في حال تواصلت موجات التحشيد العنصري ضد التجمعات الفلسطينية في أراضي 1948. والثنائي الذي استخدم تلك التموجات وراهن على كسبها في معركة غزة اكتشف أن المطلوب منه ضد القطاع أكثر مما أوقعه من مجازر ومذابح وقتل واقتلاع وتحطيم وتدمير وتقطيع أوصال. فالناخب الإسرائيلي بنى طموحاته المغالية في توقعاتها على قراءات متطرفة فاقت أحلام الثنائي وحساباته الانتخابية.
الآن انكشف غبار القنابل العنقودية والفسفورية والمحرمة دوليا عن فوضى أهلية في غزة وانقسامات سياسية تحيط بالقطاع من مختلف الجهات مقابل انتظام الانقسامات السياسية الإسرائيلية في معادلة حزبية تعطي الأكثر تطرفا النصيب الأوفر من الأصوات والمقاعد. ومثل هذه النتيجة الحسابية في الانتخابات التي ستعقد في 10 فبراير المقبل سترفع من حدة التصلب الإسرائيلي في المفاوضات التي يرجح أن تشجع إدارة باراك أوباما على معاودتها بإشراف المبعوث الأميركي إلى «الشرق الأوسط» جورج ميتشل.
خطورة الانتخابات الإسرائيلية المقبلة أنها تقررت ميدانيا في غزة بين ثنائي قرر العدوان لتحسين فرصه بالتنافس على كسب الشارع ومقاعد البرلمان وبين قوى متطرفة اعتبرت أن الإبادة هي الحد الأدنى المقبول منها لإعلان النصر وغير ذلك يصنف في خانة الفشل والإخفاق وربما الهزيمة. وبهذا المعنى اعتبرت الأحزاب العنصرية المغالية في تطرفها القومي وتشددها الديني أن عملية العدوان جاءت قاصرة وليست كافية لتلبية حاجات الأمن وضمان الاستقرار وحماية الهوية من الضياع أو الاندماج في المحيط.
بين حسابات الثنائي ليفني - باراك العسكرية وطموحاته السياسية ضاعت فرصة التمديد على أشلاء الشعب الفلسطيني ودماء الأطفال والنساء والشيوخ والشباب. فالثنائي المهووس بالثأر والانتقام من مفاعيل العدوان على لبنان في العام 2006 تورط في قراءة انتخابية أراد منها تحسين ظروف الفوز والنجاح ولكنها أعطت مردودا عكسيا رفع من شعبية الأكثر تطرفا وحافظ على شعبية الأقل تطرفا. وبين الأعلى والأدنى كان الشعب الفلسطيني ولايزال منذ 60 عاما هو الضحية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2333 - السبت 24 يناير 2009م الموافق 27 محرم 1430هـ