في مقالة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» دعا الرئيس الليبي معمر القذافي إلى إنهاء حالة الدولتين، وصولا إلى دولة أطلق عليها اسم «إسراطين»، معتبرا أن «التقسيم أو الدولتين من شأنهما أن يؤديا إلى استمرار الصراع». وعلى نحو مواز لوّح القذافي في محاضرته الأخيرة التي بثتها الأقمار الصناعية، مخاطبا فيها طلبة وأساتذة جامعة «جورج تاون» بالعاصمة الأميركية واشنطن، بأن الجماهيرية الليبية قد تضطر إلى «تأميم» قطاع النفط، محذرا، في الوقت ذاته من أن ليبيا «قد لا تلتزم بحصص الإنتاج التي قررتها أوبك، بهدف إعادة التوازن لسوق النفط».
القضيتان من شأنهما أن تثيرا الكثير من الجدل، إن لم يكن اللغط. وبما أن قضية «إسرطين» معقدة، والمرحلة لا تستحمل الخوض فيها، فمن الأفضل التركيز على موضوع «تأميم النفط» والخروج من صفوف «الأوبك». وقبل ذلك لابد لنا أن نعرف من أنه على رغم أن ليبيا تملك أكبر احتياطي نفط في القارة الإفريقية، لكن إنتاجها في الوقت الحاضر لا يتجاوز 1.7 مليون برميل، كما هو عليه اليوم، وتطمح ليبيا إلى زيادة إنتاجها من النفط كي يرتفع إلى 3 ملايين برميل يوميا بحلول العام 2012، وهناك من يقول إنها تطمح إلى تحقيق ذلك بحلول العام 2010. وللمقارنة، بوسع دول الأوبك مجتمعة مراقبة ما يقارب من 30 مليون برميل يوميا فقط، تشكل نحو 40 في المئة من الإنتاج العالمي الذي يبلغ 86 برميلا في اليوم.
هذا يعني وبأرقام اليوم أن حصة ليبيا لا تتجاوز 5 في المئة من الأوبك، وهذا يعني أيضا أنها لا تتجاوز 0.1 في المئة من الحصة العالمية، مقارنة بدولة مثل السعودية التي تبلغ حصتها نحو 2 في المئة من حصة الأوبك، أو كمية النفط التي تخرج من مضيق هرمز والتي تصل نسبتها إلى نحو 25 في المئة من حجم الإنتاج العالمي من النفط.
ضآلة حصة النفط الليبي في السوق العالمية، يقابلها اتساع مساحة الاعتماد الليبي على النفط، إذ يشكل النفط نحو 94 في المئة من عائدات ليبيا من النقد الأجنبي و60 في المئة من العائدات الحكومية و30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وأكثر من ذلك، وخلال أزمة النفط الأخيرة، وأمام تهاوي الأسعار، كان في وسع أوبك تخفيض الإنتاج بنحو 3 ملايين برميل في اليوم، وهو ما يعادل ضعف الإنتاج الليبي برمته.
الأخطر من ذلك، هو أن ليبيا لم تكد، حتى تاريخ متأخر، أن تخرج من أزمة لوكاربي، التي فرضت عليها حجرا عالميا أضر كثيرا بالاقتصاد الليبي وتطوره وإمكانات نموه، توج بتغريم ليبيا نحو 3 بلايين دولار تعويضا لما عرف بـ»أزمة لوكاربي». ومن هنا فإن طرابلس اليوم، أكثر من أية دولة أخرى، أو منظمة مثل الأوبك، بحاجة إلى فترة زمنية كافية تلتقط فيها أنفاسها كي تلج السوق العالمية على أرضية أكثر صلابة، وقرارات سياسية أكثر صوابا.
باختصار، حاجة ليبيا للنفط، تفوق -بما لا يقاس- مستوى ودرجة احتياج السوق النفطية العالمية للنفط الليبي، أو مدى اعتمادها عليه. وسنوات «الحجر الاقتصادي» على ليبيا لاتزال شاهدا على صحة هذا القول.
النقطة الجوهرية هنا هو ربط قرار الخروج على صفوف أوبك، وزيادة الانتاج، باللجوء إلى التأميم ووضع الدولة يدها على مقدرات النفط. فمن الحقائق القائمة أن النفط الليبي هو الآن ملك الدولة وهي التي ترسم سياساته وتضع استراتيجياته، وليبيا ليست حالة استثنائية بالنسبة للغالبية العظمى، إن لم يكن جميع الدول الأعضاء في أوبك.
الملفت للنظر، أن الرئيس الليبي وفي مطلع العام 2008 أعلنها صراحة في خطاب له أمام مؤتمر الشعب العام «البرلمان» في دعوته الجريئة إلى «الاستعاضة عن الوزارات والإدارات بتوزيع ثروة النفط على المواطنين مباشرة لينفذوا بأنفسهم مشاريع إنمائية وخدماتية».
وقبل ذلك وفي منتصف العام 2003 تشكلت حكومة جديدة في ليبيا يرأسها اختصاصي في الاقتصاد شكري محمد غانم، الذي أوكل لها الرئيس الليبي «المضي قدما في سياسة الانفتاح انسجاما مع دعوته إلى خصخصة الاقتصاد». وقد سبق ذلك، وفي العام 2002 تبنت ليبيا سياسة انفتاح اقتصادي ترافق مع برنامج طموح من الاستثمارات بقيمة 35 مليار دولار من 2002 إلى 2005 هدف إلى إشراك رساميل محلية ودولية بنسبة ما بين 30 إلى 40 في المئة ولاسيما في المجالات النفطية والاقتصادية.
القصد من وراء هذا الجردة أن الظروف الراهنة وطبيعة الأوضاع الاقتصادية العالمية القائمة، بل وحتى الليبية منها، ومعها الأوضاع الاقتصادية العربية لا تسمح بهزات مثل هذه التي أطلقها الرئيس الليبي، فهي وإن جاءت في خضمّ صراع سياسي يتأجج في المنطقة العربية على وجه الخصوص، لكن هشاشة تلك الأوضاع، وهامش المناورة الضيق الذي تتيحه في هذه المرحلة، تقتضي المزيد من التحفظ أولا، والكثير من الحذر عند إطلاق التصريحات، وخاصة في محافل عامة تحتضن العديد من المؤسسات صاحبة القرار مثل جامعة جورجتون، ثانيا.
فالنفط، ولأسباب تاريخية، وبخلاف أية سلعة أخرى، تحول إلى سلعة استراتيجية عالمية، يصعب للاعب واحد فقط أن يتصرف في اقتصادياته على نحو منفرد من دون أن يأخذ في الاعتبار مصالح، وربما أمزجة اللاعبين الآخرين، بما فيهم المستهلكين، دع عنك المنتجين.
لذلك فلتستميحنا العذر سيادة الرئيس فلربما اقتضى الأمر المزيد من التريث وضبط النفس في آن واحد.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2332 - الجمعة 23 يناير 2009م الموافق 26 محرم 1430هـ