كان أملنا من وزارة الثقافة والإعلام بعد مسماها الجديد أن تصدح خيرا وأن تطلق العنان لحرية التعبير، لكن المفاجأة أن «اللسعة» كانت سريعة ومفاجئة وسهامها طالت وريد الديمقراطية والتعددية الثقافية والسياسية، وتصيب في مقتل خيارنا كشعب في تلمس النور بعد عقود من الظلام.
لقد تزامن قرار إغلاق 40 موقعا إلكترونيا مع التقرير السنوي لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» التي كشفت عن تراجع في حرية التعبير في البحرين في مواطن عديدة، وليس هذا التقرير الأول من نوعه الذي بشر بحدوث تراجعات، فالعالم الذي صفق لنا حين احترمنا حرية التعبير لن يصفق لنا ونحن نسجن هذه الحرية.
هذا القرار سيقضي على إضاءات التجربة البحرينية، في وجهها الجميل، لأن الصحافة - في عهد جلالة الملك - أضحت تتمتع بقدر كبير من الجرأة في التعاطي مع قضايا الشأن العام وفي توجيه سهام النقد لكل المسئولين، وبصراحة فإن حريتنا الصحافية تفوق الكثير من دول عالمنا العربي، إلا أن قرار غلق المواقع قد عزز رجاء المشككين في حرياتنا الإعلامية، ومن حقهم ذلك!
إغلاق 40 موقعا بالجملة «ليست شطارة»، لأنه لا يمكن لأي كان أن يحجب المعرفة، لا بإغلاق المواقع ولا بملاحقة الوصلات، بل الغريب أن المنع طال هذه المرة عشرات المواقع الحوارية والثقافية والاجتماعية والحقوقية والسياسية.
لم يعد اليوم من أحد قادر على فرض الوصاية على نقل المعرفة، وخصوصا في فضائها الرحب، وفي أوعيتها الإلكترونية المتشعبة، لأن هذا الإطار يمثل حالة من التلاقي والرقي الإنساني، ولا يمكن أن تكمم فيه الأفواه، أو أن تطلى بالشمع الأحمر.
البحرين التي أصبحت نموذجا إشعاعيا في الحرية الإعلامية في خطر الآن، لأن مثل هذه الرسائل المخيفة ستعيد إلى الأنظار مجددا نزعة التراجع إلى الخلف بدلا من الولوج في تغيير حقيقي ولو كان تدريجيا، لا نريد من أحد أن يلوي ذراع الدولة، ونرفض في المقابل أن تلوي الدولة ذراع الناس أو أن تخنق رئتهم.
وزيرة الثقافة والإعلام الشيخة مي بنت محمد آل خليفة يعرف عنها ميولها الليبرالية والديمقراطية، ومعروف عنها حرصها على حرية التعبير، وهنا مكمن الاستغراب، فنحن - ولمعرفتنا السابقة بالوزيرة - كنا نرجح أن تطلق الوزيرة - التي تملك حسا ثقافيا مرهفا - مبادرة بافتتاح جميع المواقع الإلكترونية المغلقة قبل تسلمها الوزارة، لا أن يحدث العكس.
خطورة قرار وزارة الإعلام في غلق هذا الكمّ الكبير من المواقع أنه قرار اتخذته السلطة التنفيذية، في حين يفترض في دولة المؤسسات والقانون أن تكون المرجعية الأولى والكلمة الفصل للقضاء البحريني، لأن وزارة الإعلام في هذا الموضوع على وجه التحديد لا تصلح أن تكون حكما، لأنها خصمٌ في النزاع.
بوصلة السلطة في قيادة المجتمع يجب أن تتجه للأمام دائما، وما حدث من إغلاق المواقع أقل ما يقال عنه أنه يصادر حرية التعبير، ويتعارض كليا مع روح الدستور والميثاق، ووزارة الإعلام مدعوة للتراجع عنه قبل أن تلحق بالبحرين صفة «شرطنة المجتمع»، فلا يمكن علاج الظواهر السلبية في البيئة الاجتماعية بفرض السيف وإنما بالتحلي بالحكمة والشفافية والنقد والتوجيه المستمر.
من البديهي أن ندعو القائمين على كل المواقع إلى الالتزام بالدستور وترشيد لغة الخطاب والتعامل بمسئولية تجاه كل قضايانا الوطنية، ولكن لا يمكن أن نكون بعيدين عن جبهة الانتصار لحرية التعبير، وسنرفض حتما أن تذبح «الكلمة» وتسجن «الحرية» أمام نواظرنا فنصبح حينها شهود زور، والنواب والشوريون والإعلاميون والمجتمع المدني يجب أن يتكاتفوا معا من أجل إلغاء هذا القرار... يجب ألا تأخذنا العزة بالإثم!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2329 - الثلثاء 20 يناير 2009م الموافق 23 محرم 1430هـ