الخطاب العربي الرسمي الذي ظهر في قمة الكويت الاقتصادية أشار بوضوح إلى وجود انعطافة سياسية في توجهاته. فالدبلوماسية العربية التي واجهت تحديات دولية وضربات أميركية متتالية قررت عدم المضي في التراجع والبدء في حملة مضادة تؤسس قواعد عمل ثابتة يمكن اعتمادها منطلقات للهجوم المعاكس.
هذا الخطاب الذي أخذ يتشكل في ضوء العدوان على غزة وما نتج عنه من تداعيات فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية يمكن قراءة تفصيلاته في تلك الفقرات التي وردت في كلمات أصحاب الجلالة والسمو والرؤساء وألقيت تباعا في قمة الكويت. فالخطابات المتنوعة تضمنت نقاطا تؤكد على وجود استعداد عربي رسمي لإعادة النظر في توجهات مسالمة أبدتها في مناسبات سابقة.
إبداء الاستعداد لإعادة النظر في مبادرة السلام العربية التي أقرت بالإجماع في قمة بيروت في العام 2002 شكل إشارة قوية إلى وجود نية في الانعطافة والبدء في تأسيس مرحلة مخالفة لذاك التوجه. وهذه النقطة تعتبر خطوة مفصلية في حال أخذ بها لاحقا في اعتبار أن مبادرة السلام كانت واحدة من العناوين المشتركة التي اعتمدتها جامعة الدول العربية في السنوات السبع الماضية. وإبداء الاستعداد للتخلي عنها يعني أن الدول العربية في صدد الاتجاه نحو اعتماد خيارات بديلة يمكن تلخيص احتمالاتها بالنقاط الآتية:
العودة إلى سياسة التجميد (اللاحرب واللاسلم)، التأكيد على الحسم (الحرب أو السلم)، الذهاب إلى خطوات الحرب أو السلم بطرق مختلفة ومنفردة، السقوط في فوضى عربية تتنافس فيها المسارات على كسب فرص السلم أو الانجرار إلى الحرب.
البدائل عن مبادرة السلام العربية كثيرة ومتنوعة ولكنها في مجموعها تقود إما إلى الفوضى (تعدد المسارات وتنافسها) أو إلى المحاور (انقسامات عربية تحت سقف دولي) أو انفراد كل دولة في اختيار الحل الذي يتناسب مع مصالحها وظروفها. وبسبب تعدد البدائل وخطورتها وعدم انسجامها مع توازن المصالح العربية توجهت بعض الآراء إلى اقتراح فكرة تمديد مشروع السلام العربي وعدم إسقاطه من الحسابات أو التضحية به قبل التوصل إلى صوغ البديل المشترك والواضح في غاياته واستهدافاته.
«إسرائيل» من جانبها ترفض أية صيغة عربية مشتركة وتفضل الابتعاد عن مشروع التفاوض مع الدول العربية دفعة واحدة. وبسبب هذه الرغبة الإسرائيلية غير المعلنة رفضت تل أبيب بوضوح المبادرة العربية لحظة إعلانها رسميا في بيروت وردت عليها عمليا ومباشرة بإعادة احتلال الضفة وغزة ومحاصرة ياسر عرفات في مقر الرئاسة في رام الله في العام 2002.
الرد الإسرائيلي آنذاك كان إشارة من حكومة ارييل شارون المدعومة بقوة من إدارة جورج بوش على أن الدول العربية لا تمتلك القدرات للدفاع عن مشروعها ولا تستطيع تنفيذ ما تقترحه من مبادرات. وجاء الهجوم الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية ليؤكد ميدانيا أن تل أبيب هي الطرف الأقوى في المعادلة وتمتلك الإمكانات العسكرية لكسر أي توجه عربي مشترك.
آنذاك كانت حكومة تل أبيب تراهن على استراتيجية بوش الايديولوجية والتقويضية التي تشكلت ردا على العرب والمسلمين بسبب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. ورأت حكومة شارون أن رفضها للمبادرة العربية وهجومها على عرفات في مقر رئاسته خطوة عسكرية تنسجم مع توجهات واشنطن الانقلابية وتصب في إطار تصعيد العداء للعرب والمسلمين تحت مظلة مكافحة الإرهاب الدولي.
نجحت تل أبيب في العام 2002 في تجميد الهجوم العربي نحو السلام مستخدمة الغطاء الأميركي الذي أعلن رسميا البدء في حرب طويلة ودائمة تستهدف تغيير المعادلات وكسر الأنماط وإعادة هيكلة خريطة «الشرق الأوسط» حتى تتكيف مع التصورات الأميركية ورؤيتها للنظام الدولي الجديد. وبسبب انسجام السياسة الإسرائيلية مع الاستهدافات الأميركية في المنطقة العربية - الإسلامية تعرضت مبادرة السلام إلى اختراقات تمثلت في تعويم المسارات المنفردة والتلاعب بها خارج مظلة جامعة الدول العربية. فتل أبيب تقليديا تفضل دائما التعامل مع الأطراف العربية منفردة وهي ترى مصلحتها من خلال لعبة المسارات لا المبادرات المشتركة. لذلك ساهمت بدعم من واشنطن في تعطيل مبادرة بيروت العربية مقابل فتح خطوط اتصال ومواصلات منعزلة مع موريتانيا وقطر على خط متوازٍ مع المسارين السوري والفلسطيني. وبسبب هذه اللعبة نجحت تل أبيب في تجنب استحقاقات الهجوم العربي نحو السلام وحققت مكاسب وقتية وظرفية من خلال التلاعب بالمسارات إذ تارة تغلب السوري على الفلسطيني وطورا الفلسطيني على السوري تهربا من الالتزامات والقرارات الدولية.
تصعيد أميركي
ترافقت السياسة الإسرائيلية مع تصعيد أميركي ضد العرب والمسلمين اعتمد برنامج التقويض في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ما أدى إلى إضعاف المشروع العربي وعزل المحاور وتشطيرها إلى بيانات تفتقد إلى لغة مشتركة يمكن الاعتماد عليها لتحصين الجبهة العربية والتصدي للهجمات الإسرائيلية التي تركزت على الضفة والقطاع ولبنان وانتهت إلى تقطيع أوصال بلاد الأرز وغزة في حربين ما أسفر عن صدور القرار 1701 في العام 2006 والقرار 1860 في العام 2009.
أمام هذه الهجمة الإسرائيلية المدعومة أميركيا حتى اللحظات الأخيرة من عهد بوش كان لابد من صدور موقف عربي يرد ويتصدى لتلك التداعيات التي أسفرت عنها سياسة التقويض المبرمج سواء في العراق أو فلسطين أو لبنان. الرد العربي الذي ظهرت تموجاته الأولى في الخطاب الرسمي في قمة الكويت الاقتصادية يشير إلى وجود انعطافة سياسية في توجهاته العامة من دون السقوط في أوهام البدائل. فالرد العربي لايزال يتمسك بمشروع المبادرة إلا أنه أبدى استعداده لإعادة النظر بها وربما الذهاب إلى خيارات أخرى تحسم الأمر بين السلام والحرب.
هذا التوجه العربي المحتمل تبلوره في الفترة المقبلة، في حال واصلت «إسرائيل» سياسة الهجوم والتهرب من القرارات الدولية، يمكن قراءة أسبابه في الكثير من العناصر التي أخذت تتشكل ألوانها على مختلف الأصعدة والمستويات. فالوضع العربي الآن على رغم سلبياته وانقساماته وتجاذب محاوره أفضل مما كان عليه في عهد بوش. فخروج إدارة بوش منكسرة وفاشلة ومحطمة يعتبر نقطة قوة للعرب لأن الإدارة الجديدة ستأخذ وقتها للتفكير وستوقف حروبها مؤقتا وربما تقلع نهائيا عن استراتيجية التقويض. فهذا العامل الأميركي يعتبر من عناصر القوة لمصلحة الجانب العربي ونقطة ضعف لسياسة «إسرائيل» التي اعتمدت في حساباتها على توجهات بوش.
تراجع الضغط الأميركي على الدول العربية والمسلمة بعد رحيل إدارة بوش يشكل فرصة تاريخية للتقدم باتجاه تطوير مشروع المبادرة وتحسين شروطها وتسخين آليات عملها من خلال العمل على كسب الجانب الأوروبي وجذب دعم دول الاتحاد لمصلحة العملية التفاوضية العربية. وهذا الأمر يمكن ملاحظته من خلال الدبلوماسية المصرية التي اتجهت في الأسبوع الماضي إلى توجيه رسالتين قويتين لواشنطن؛ الأولى، رفض القاهرة الاتفاق الأمني الذي وقعته وزيرة الخارجية الإسرائيلية مع وزيرة الخارجية الأميركية بشأن تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة ومراقبة المعابر ونشر قوات دولية في الأراضي المصرية. والثانية، الدعوة إلى قمة تشاورية عربية - أوروبية في شرم الشيخ غابت عنها الإدارة الأميركية (بوش) وحكومة إيهود أولمرت. وشكلت الدعوة المصرية إشارة غضب أرادت القاهرة إرسالها لتأكيد أمنها القومي وسيادتها على الأراضي والمعابر من جهة وإظهار استعدادها للبحث عن بدائل دولية في حال قررت إدارة واشنطن الجديدة (أوباما) السيّر في الاتجاه الأميركي السابق.
الخطاب العربي الرسمي الذي ظهرت إشاراته الأولى في قمة الكويت مسألة مهمة لا يُستهان بها على رغم خلافات المحاور، لأنه يظهر الاستعداد للبدء في سياسة الهجوم المعاكس وشن حملة مضادة على «إسرائيل» وحليفها الأميركي ولكونه يأتي أيضا في سياق متغيرات دولية أخذت تخفف الضغط على الدول العربية بعد سنوات عصيبة شهدتها العلاقات مع واشنطن في عهد إدارة اتصفت بكراهية العرب والحقد على المسلمين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2329 - الثلثاء 20 يناير 2009م الموافق 23 محرم 1430هـ