إذا كانت الليبرالية تشدد على المعاملة المتساوية لجميع المواطنين، فإن التعددية الثقافية تشدد على الاحترام المتساوي لكل الثقافات. والمعاملة والاحترام كلاهما سلوك مطلوب من قبل الدولة تجاه المواطنين والجماعات. مما يعني أن الدولة مكوّن مركزي ولا غنى عنه في الليبرالية والتعددية الثقافية سواء بسواء، فالدولة هي من يقع على عاتقها القيام بواجب المعاملة والاحترام المتساويين.
ولكن كيف يمكن ترجمة هذا الواجب على أرض الواقع؟ في الليبرالية تترجم المعاملة المتساوية على أنها حق المواطنين في الحصول على النوع نفسه من الحقوق والاستحقاقات، في حين أن الاحترام المتساوي يترجم في التعددية الثقافية على أنه حق الجماعات في أن تحظى باعتراف رسمي متساوٍ من قبل الدولة. وبهذا المعنى فإن احترام التنوع داخل الدولة يتطلب الاعتراف الرسمي بالجماعات المتنوعة. وهذه واحدة من المطالب الأساسية في التعددية الثقافية، إلا أنها في الوقت ذاته واحدة من الإشكالات الكبيرة التي دار حولها الكثير من الجدل.
والاعتراف واحد من المفاهيم المحورية في التعددية الثقافية، وترجع صياغته المكتملة إلى المفكر الكندي تشارلز تايلور في مقالته عن «سياسات الاعتراف» (1992) The Politics of Recognition. وتعود جذور المفهوم إلى هيغل وجدلية العبد والسيد حيث يكون على العبد أن يعترف للسيد بسيادته، ولنفسه بالعبودية لهذا السيد. وبحسب المفهوم الهيغلي عن الاعتراف فإن «كل رغبة بشرية هي في نهاية الأمر تابعة للرغبة في «الاعتراف»، ومتوقفة عليها. والحديث عن أصل الوعي بالذات يعني بالضرورة الحديث عن صراع حتى الموت من أجل الاعتراف» (السيادة والعبودية، ضمن كتاب: الفلسفة الحديثة: نصوص مختارة، ص299).
كيف يمكن أن يكون الصراع حتى الموت من أجل الاعتراف؟ فإذا كان الاعتراف رغبة بشرية أساسية، فإن إشباعها سيكون مطلبا ملحا للجميع، وهو مطلب لا يتحقق، من هذا المنظور، إلا في سياق الصراع، لأن على كل واحد من البشر أن ينتزع الاعتراف به من الآخرين بالقوة، وهذا يعني أن الاعتراف لا يوجد إلا في سياق الصراع، إلا أنه لا يمكن أن يكون صراعا حتى الموت؛ لأن الفوز بالاعتراف لا يتحقق بفناء الطرفين ولا ببقاء أحدهما على قيد الحياة وموت الطرف الآخر، بل لا بد من بقاء الاثنين معا، المنتصر والمهزوم، على قيد الحياة من أجل أن يعترف المهزوم بهزيمته، ويقرّ للمنتصر بانتصاره وتفوقه وسيادته، لأن الميت عاجز بطبعه عن الاعتراف بشيء، فالاعتراف هو امتياز الأحياء فقط، و»لكي يتشكل الواقع البشري كواقع معترف به، ينبغي أن يبقى الخصمان على قيد الحياة بعد صراعهما» (ص300). وبالمعنى هذا فإن الصراع من أجل الاعتراف لا يمكن أن يكون صراعا حتى الموت، لأن رغبتنا في الاعتراف لن تُشبع بعد الموت، موت المنتصر أو موت المهزوم سواء بسواء، فإذا مات المهزوم فإن رغبة المنتصر في الاعتراف بتفوقه من قبل المهزوم لن تشبع، وإذا مات المنتصر فإنه سيحرم نهائيا من رؤية الآخر وهو يعترف به وبتفوقه. ومع هذا فإن البشر عادة ما يخوضون الصراع من أجل الاعتراف وهم مسكونون برغبة عارمة تصل بهم حدّ المخاطرة بحياتهم. وهنا تكمن مفارقة الاعتراف، فإذا كان الواقع البشري لا يوجد إلا كواقع معترف به، فإن الرغبة في الاعتراف ستكون بالضرورة رغبة بشرية حاسمة وتتوقف عليها كل رغبة بشرية أخرى، إلا أن المفارقة تكمن في أن الرغبة في الاعتراف لا تتحقق إلا بشرط البقاء على قيد الحياة، فنحن بحاجة لأن نبقى أحياء من أجل أن نحظى بالاعتراف، إلا أن الاعتراف الذي يتحدث عنه هيغل هو من ذلك النوع الذي يفرض على المرء أن يخوض صراعا حتى الموت من أجله.
ولكن، هل يتطلب الاعتراف كل هذا الصراع؟ وهل يمكن الفوز بالاعتراف دون الانخراط في صراع حتى الموت بالضرورة؟ وهل بالإمكان الحديث عن الاعتراف بمعزل عن هذا القاموس الدموي؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا العودة إلى أطروحة تشارلز تايلور حول «سياسات الاعتراف»، حيث يطور تايلور مقاربة غير دموية للاعتراف، مقاربة تتعامل مع الاعتراف بوصفه استحقاقا مدنيا أو سياسيا نحصل عليه بطريقة سلمية مثله كمثل بقية الحقوق الأخرى. هناك، بالطبع، مجتمعات لا سبيل أمامها لنيل حقوقها الأساسية كالحق في الحياة والكرامة البشرية وحرية التعبير إلا من خلال الانخراط في صراع دموي مع السلطة الديكتاتورية، والسبب أن الجدلية الحاكمة لعلاقة السلطة بالمواطنين في هذه المجتمعات، هي الجدلية الدموية الهيغلية التي تحكم علاقة السيد (الدكتاتور) بعبيده (المواطنين)، حيث ينخرط الطرفان في صراع دموي من أجل الاعتراف، الأول يطالب بالاعتراف بحقه في السلطة الشمولية المطلقة، فيما يسعى الثاني من أجل الاعتراف بمواطنته وحقوقه الأساسية، الأمر الذي يتطلب الحدّ من تلك السلطة المطلقة. وهذان اعترافان متعارضان ويتعذر التوفيق بينهما على الإطلاق، ومن هنا يتولّد مطلب الاعتراف في سياق الصراع الدموي. إلا أن المجتمعات الديموقراطية ليست مضطرة لخوض هذا النوع من الصراع من أجل الاعتراف، لأنها تجاوزت عقبة الاعتراف الهيغلي من خلال إقرارها لصيغة ديموقراطية سلمية من الاعتراف المتكافئ المتبادل، حيث تعترف الدولة بحقوق المواطنة الأساسية، وفي المقابل يعترف المواطنون بمشروعية حكم الدولة. وبهذه الطريقة تحلّ معضلة الاعتراف الدموي، كما تتقوّض معها جدلية السيد والعبد بحيث لا تكون الدولة سيدا، ولا ينحطّ المواطنون إلى مرتبة العبيد.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2328 - الإثنين 19 يناير 2009م الموافق 22 محرم 1430هـ