العدد 2323 - الأربعاء 14 يناير 2009م الموافق 17 محرم 1430هـ

العدوان الإسرائيلي على غزة: جريمة إبادة الجنس

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

في 9 ديسمبر/ كانون الأول وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 260 (3) على اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها، ولقد ذهب العديد من فقهاء القانون الدولي إلى أن جريمة إبادة الجنس تعد أخطر وأضخم جريمة ضد الإنسانية وتوصف أحيانا بأنها «جريمة الجرائم» نظرا إلى التداعيات الناتجة عنها وما تحمله من نية إجرامية تجاه جماعة بشرية معينة تسعى إلى القضاء عليها إلى الأبد وهي تصدم الضمير الجمعي للإنسانية، فهي تسلب الإنسان أعز ما يملك وهي حياته.

ولهذا قال الشاعر العربي متهكما على من يرتكبون هذه الجرائم ضد جماعات بشرية معينة من خلال عمليات الاستيطان والاستعمار والتوسع واستخدام أقصى أنواع العنف وأكثر الوسائل فتكا:

قتْل امرئ في غابة

جريمة لا تغتفر

وقتل شعب آمن

مسألة فيها نظر

ولا مراء في أن هذا الشعب الآمن هو شعب فلسطين، وقضية فلسطين في الأمم المتحدة يطلق عليها اصطلاح «مسألة» والاطلاع على قرار مجلس الأمن رقم (1860) الصادر في 8 يناير/ كانون الثاني 2009 يوضح بلا لبس مدى ازدواجية المعايير لمن امتنع أو حتى من صوتوا من الدول الغربية لصالح القرار وذلك للاعتبارات الآتية:

الأول: إن القرار جاء نتيجة العدوان الإسرائيلي على غزة وهو عدوان سافر ولا نقاش في حدوثه، ومع ذلك لم يصفه بأنه عدوان.

الثاني: إن الحالة في غزة في ظل العمليات العسكرية الإسرائيلية تمثل تهديدا للسلام والأمن الدوليين ومع ذلك فالقرار لم يصفها بذلك حتى لا يطالب أحد أو يمكن أن يفسره أي شخص بأنه وفقا للفصل السابع الذي يفرض عقوبات ملزمة للجميع.

الثالث: إن الأغرب في القرار أنه حتى لم يشر إلى الفصل السادس الخاص بالتسوية السلمية للمنازعات وإن كان سياق القرار وإشارته إلى القرارات السابقة التي جاءت في إطار الفصل السادس يعني أنه في إطار أو بموجب ذلك الفصل.

الرابع: إن القرار وجّه اللوم لـ «حماس» لأنه اعتبر أن رفض تمديد فترة التهدئة هو السبب في تصاعد العنف وهذا تعبير غريب لأن العدوان وما ارتبط به يوصف بأنه مجرد عنف ويجب حماية المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين منه.

الخامس: يتناسى القرار أن تطور الأحداث وإطلاق صواريخ على «إسرائيل» على رغم كونها صواريخ بدائية ولم تقتل سوى 3 أفراد على مدى 7 سنوات كما أشار إلى ذلك الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في مقال له بصحيفة «الشرق الأوسط» نقول تناسى القرار أن جذور المسألة هو الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر منذ العام 1967 وإخفاق مساعي السلام بل وعدم تنفيذ «إسرائيل» لقرارات المجلس منذ القرار 242 العام 1967 وأيضا الاتفاقات اللاحقة التي عقدت بين «إسرائيل» ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي تم بموجبها إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية كخطوة نحو تسوية المشكلة عن طريق التفاوض. وعلى رغم مرور 15عاما على قيام السلطة فإن الاحتلال مازال قائما والمماطلة في تنفيذ الاتفاقيات وإطالة أمد التفاوض من الممارسات الإسرائيلية المعروفة. وعودة للاتفاقية الدولية بحظر جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها نقول إن الاتفاقية عرّفت هذه الجريمة في المادة الثانية بأنها (أي من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي والجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأعضاء الجماعة - إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا - فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، وأخيرا نقل الأطفال عنوة من الجماعة إلى جماعة أخرى). وتحليل هذه المادة يوضح وجود أربعة أركان لهذه الجريمة: فعل جنائي، تعمد تدمير كلي أو جزئي، جماعة عرقية أو قومية أو دينية، الاستهداف، ولوطبقنا ما سبق على حالة فلسطين عموما وغزة خصوصا لوجدنا الجريمة مكتملة الأركان: القتل هو فعل جنائي. التدمير كلي في مناطق بأكملها ومدن فلسطينية أزيلت من على الأرض وحلت محلها قرى يهودية، أو تدمير جزئي أو شبه كلي كما حدث في جنين ويحدث الآن في غزة بصورة مكثفة، هناك جماعة قومية مستهدفة هي الجماعة الفلسطينية، والاستهداف واضح ليس فقط من العمليات واستخدام مكثف للنيران بل وأيضا من القنابل والأسلحة المحرمة دوليا.

وليست القضية الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني هو الوحيد الذي تم استهدافه عبر التاريخ الذي عرف إبادة الكثير من الأعراق والأجناس والشعوب ولكن الجديد هنا هو وجود تجريم وتحريم قانوني لهذا العمل منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (96) الصادر في 16 ديسمبر 1946 والذي بموجبه بدأت الجمعية في التداول والبحث للوصول لاتفاقية دولية تم اعتمادها في 9 ديسمبر 1948.

ولقد تمت الإشارة إلى حالة الإبادة المستحدثة هذه في عدة قضايا منها الجرائم ضد الإنسانية في رواندا وأدى ذلك إلى إنشاء محكمة جنائية خاصة بذلك والجرائم ضد البوسنة التي ارتكبها الصرب بعد انهيار يوغوسلافيا الموحدة وإنشاء محكمة لجرائم الحرب في البوسنة والهرسك، وارتكاب جرائم في دارفور وإصدار مجلس الأمن الدولي قرارات في إطار الفصل السابع بل وإحالة المسألة إلى المحكمة الجنائية الدولية التي حركت دعوى الاتهام ضد الرئيس السوداني عمر البشير وطالبت باعتقاله على رغم أن جرائمه لا تقارن بحالة البوسنة والهرسك أو حالة رواندا بورندي ولكنها العدالة مزدوجة المعايير في الفكر والنظم الغربية التي تطلق على نفسها مركز الحضارة والمدنية، ويشعر المرء بالهول الشديد عندما يجد الدول الغربية جميعا تمتنع عن الموافقة على قرار مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي يدين العدوان الإسرائيلي على غزة بدعوى أنه غير متوازن مع هذا الذي يساوي بين صواريخ الأطفال البدائية التي تمثل إزعاجا وبين صواريخ حقيقية وأسلحة فتاكة تقتل بلا رقيب ولا حسيب وتدمّر المباني بمن فيها وأحيانا تصبح «إسرائيل» رحيمة فتلقي إنذارات على السكان بإخلاء المباني فإذا تم إخلاؤها يتم تدميرها وتدمير المناطق الجديدة التي يذهبون إليها على رؤوسهم.

إن الأمر بحاجة إلى توثيق ما هو أصبح موثقا لأن الفضائيات والأقمار الاصطناعية بل و «إسرائيل» ذاتها لا تنكر شيئا مما يحدث بل وتفاخر بكمية القتل للفلسطينيين بدعوى أنهم إرهابيون أو يأوون الإرهابيين.

التساؤل الذي نطرحه هو متى يتحرك الضمير العالمي لمواجهة حالة الإبادة والقتل الجماعي للفلسطينيين سواء من خلال تدمير منازلهم وقتلهم أو من خلال العقاب الجماعي والحصار أو من خلال تدمير أشجارهم وزراعاتهم؟ لا يخامرني شك بأن الوقت سيأتي وسيظهر أناس خيّرون في الغرب وفي «إسرائيل» ذاتها لتغيير الموقف العدواني الإسرائيلي ولكن المطلوب في تقديري هو تحرك عربي وفلسطيني إيجابي يتمثل في الآتي:

- التخلي عن ادعاء النصر والبطولة ودحر المعتدي لأن مثل هذه الطروحات على رغم أنها غير حقيقية فهي تعطي زادا إعلاميا لـ «إسرائيل» لتدعي البراءة وأن ما تقوم به هو دفاع عن النفس.

- التحرك لمخاطبة الإسرائيليين في داخل «إسرائيل» واليهود في أوروبا وأميركا. إنهم القوة القادرة حقيقة على تغيير «إسرائيل» وليست أية قوة أخرى.

- التنسيق مع جمعيات حقوق الإنسان الإسرائيلية والدولية لفضح ما تقوم به «إسرائيل» من اعتداءات وإبادة للجنس الفلسطيني.

- استخدام أدوات القوة المتاحة لدى العرب من أموال واقتصاد ونفط وتجارة مع إمكانية التهديد بالالتجاء للقوة عند الضرورة.

- ابتعاد العرب عن استخدام القضية الفلسطينية كقميص عثمان لمصالحهم الشخصية والحزبية وارتباطاتهم مع القوى الإقليمية والدولية خارج الوطن العربي.

- إنشاء آلية قانونية في إطار جامعة الدول العربية لجمع الأدلة والأعمال التي ترتكبها «إسرائيل» وتوثيقها لاستخدامها في اللحظة المناسبة.

- الاقتداء بالفكر الإسلامي الصحيح القائم على ركائز منها: عدم فتح جبهات ضد العرب بعضهم البعض، عدم تسييس القضايا الإنسانية والاتجار بمعاناة الفلسطينيين، عدم طرح شعارات جوفاء لا تعكس حقيقة المواقف للدول ولا تلائم مرحلة التطور السياسي الدولي التي نعيشها في ظل هيمنة القطب الواحد. فمن البديهيات أن لكل مقام مقالا وأن لكل مرحلة شعاراتها وطروحاتها وسياساتها، أما فلسفة إشعال الصراعات هنا وهناك في الوطن العربي لإشغال الجماهير وإلهائهم فهي تقدم أكبر خدمة لـ «إسرائيل» بتحويل العرب إلى ركام من حطب تشتعل فيه النيران ويأكل بعضه بعضا

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2323 - الأربعاء 14 يناير 2009م الموافق 17 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً