العدد 2321 - الإثنين 12 يناير 2009م الموافق 15 محرم 1430هـ

العبودية الجديدة (2-2)

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تتركز أنظار العالم عند الحديث عن العبودية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط على منطقة الخليج العربي، حيث تنفرد هذه المنطقة، كما يتوهم العالم، بممارسة أسوأ أشكال العبودية الجديدة، التي تتجلى في أبشع صورها في قطاعين أساسيين، هما خدم المنازل، ومعظمهم من النساء، وعمال الإنشاءات والمهن القريبة منها، والتي ليست بحاجة إلى أي شكل من أشكال المهارات الفردية أو الكفاءات العلمية، والذين يتكدسون في أماكن للعيش تنعدم فيها أية متطلبات الحياة الإنسانية.

لكن الخليج ليست المنطقة الوحيدة في الشرق الأوسط، التي تتمظهر فيها أشكال متعددة من العبودية الجديدة، فقد نشرت وكالة أنباء «رويترز» تقريرا عن منظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human Rightd Watch) يؤكد أن «خادمة واحدة تموت في لبنان كل أسبوع تقريبا، من مجموع ما يقدر بنحو 200 ألف خادمة مهاجرة يعملن في المناطق اللبنانية المختلفة، إما بسبب الانتحار أوالسقوط أثناء محاولة الفرار من مستخدميهن أوعدم تلقي العلاج من الأمراض»، ما يؤدي إلى الوفاة، ونادرا ما يحاكم المستخدِمون. أما أول أشكال العبودية الجديدة في منطقة الخليج، فهو ما يعرف بنظام «الكفيل»، والذي يحرم على أي موظف أجنبي، مهما كان علو المنصب الذي يشغله، الانتقال من من ذلك العمل إلى وظيفة في مؤسسة أخرى دون أخذ موافقة «الكفيل». تتحول العلاقة بموجب نظام الكفالة هذا من «توظيف» إلى «استعباد».

ويصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك حيث يصر «الكفيل» أو رب العمل على حجز جوازات سفر العمالة الوافدة، ما يضع العامل تحت رحمة ذلك الكفيل. هذه المسألة أشار إليها وزير العمل البحريني مجيد العلوي حين قال في أحد تصريحاته: «إن الوزارة تتلقى العديد من الشكاوى من العمالة الوافدة الأجنبية، وبأنه لا يجوز لصاحب العمل حجز جوازات سفر العمالة الأجنبية التي تعمل لديه، لأن هذه الجوازات تعد وثيقة سفر رسمية تصدر عن دول هذه العمالة وتخص صاحبها». الشكل الثاني من أشكال العبودية، هي الأوضاع التي تعيشها ما أصبح يعرف بالعمالة السائبة (Free Visa)، والتي تضع العمالة الوافدة تحت رحمة «مستوردها» بالإضافة إلى تحكمه في مصير تلك العمالة، من دون أن يتحمل أكثر من كلفة تأسيس شركات وهمية تيسر له عمليات المتاجرة بهذه الكتل البشرية، مع ما تفرزه هذه الظاهرة من قنوات فساد مالية واجتماعية يكون ضحيتها الأولى تلك العمالة الوافدة، وخاصة النساء منها. ولعل هذا هو الذي جعل المقترح الذي تقدم به النائب الكويتي عبدالله الرومي في شأن «إنشاء مؤسسة عامة مستقلة، تسمى المؤسسة العامة لاستقدام العمالة الوافدة التي تخضع لإشراف وزير الشئون الاجتماعية والعمل، على أن تتحمل الدولة المصاريف التأسيسية لهذه المؤسسة»، يحظى بالكثير من التأييد في صفوف النواب الكويتيين الذين اكتووا بنيران تلك القوانين التي تسهل عمليات الاتجار بالبشر من خلال مؤسسات استقدام العمالة الوافدة. الأمر أكثر سوءا عندما نصل إلى خدم المنازل، الذين ليس هناك ما يحدد العلاقة بينهم وبين السيد أو السيدة التي يعملون في منزله أو منزلها. العلاقة متروكة للصدفة وحدها، فمتى ما كان المستخدِم، إنسانيا في سلوكه نعمت المستخدَمة بشيء من العلاقات الإنسانية، هذا وإلا فهي عرضة لأبشع أنواع الاستغلال النفسي والجسدي.

بالطبع هناك من سينبري كي يبرز الوجه الآخر من الصورة، والذي هو سوء سلوك تلك العمالة إلى درجة تصل إلى ارتكاب بعض الجرائم كتلك التي يتناقلها الكثير من وسائل الإعلام، من نمط إقدام إحدى المستخدَمات على «خنق أحد أطفال مستخدِمتها نظرا للمعاملة السيئة التي تلقتها»، وحوادث أخرى مشابهة. لا يستطيع أحد أن ينكر وقوع مثل تلك «الجرائم»، لكنها تأتي تحت باب «ردود الفعل» وليس الفعل، ولكي نتمكن من الحد منها، ولا نقول وضع حد لها، لابد لنا أن نبادر أولا إلى إزالة أسبابها والتي أشرنا إلى بعضها أعلاه. حينها لابد لنا من أن نتوقع بعض المشكلات، لكنها مشكلات قائمة على علاقات حضارية متقدمة بين الطرفين تحكمها قوانين إنسانية عادلة معمول بها في المجتمعات المتحضرة، تنصف الطرفين وتنظم العلاقات فيما بينهما بحسب قنوات تنظمها العقود والاتفاقات، لا الأهواء الشخصية أو المزاجات الفردية. تبقى قضية في غاية الأهمية لابد من لفت النظر لها، وهي أنه قد تبدو الأمور، عندما نشرع في إنصاف العمالة الوافدة، في مسارها القريب أنها ستكون لصالح العمالة الوافدة، ولكن عندما ننظر إليها، وبتمعن، في مسارها الاستراتيجي طويل الأمد، سنكتشف أنها في صالح الطرفين على حد سواء، فالعقود والتي هي شريعة المتعاملين تبقى، في نهاية المطاف، صمام الأمان الوحيد الذي يحفظ حقوق الطرفين، دونما تحيز أو جور. والأهم من هذا وذاك، ستقبر تلك العلاقة السليمة كل مظاهر الفساد التي ولدتها سنوات العبودية الجديدة كي تضع مكانها قوانين مجتمع مدني متطور، ولا نقول مجتمع مثالي لن نجده سوى في الجمهوريات أو المدن الفاضلة.

فكل الكائنات الحية وفي مقدمتها الإنسان لا تكف عن محاولة تحرير نفسها من الشروط السيئة التي تعيش في كنفها إلى درجة أن وصلت مساعي الإنسان في بحثه عن الحرية والعدالة إلى ما يشبه السلوك الغريزي الذي يصعب انتزاعه منه.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2321 - الإثنين 12 يناير 2009م الموافق 15 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً