يتوهم البعض أننا قد ودعنا نظام العبودية مع انتقال المجتمع الإنساني من المرحلة إلى المراحل التي لحقتها من إقطاع ورأسمالية، بما فيها المرحلة التي تطورت فيها الرأسمالية كي تصل إلى أعلى درجاتها والتي هي الإمبريالية. ويستند هولاء البعض وآخرون غيرهم، على العديد من المواثيق الدولية التي نجح المدافعون عن الحرية، وحق التعبير في انتزاعها عبر المؤسسات الحقوقية المحلية أو العالمية، من نمطر الاتفاقية الخاصة بالرق المنشورة في العام 1926 والاتفاقية التكميلية التي تبعتها في العام 1956، ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948، الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان للعام 1986، وأخيرا وليس آخرا اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 2001.
ربما يبرر البعض، ومن منظار فلسفي نظري بحت، ظاهرة تفشي العبودية في الحضارات الإنسانية القديمة، ويرجعها هؤلاء إلى دواعي اقتصادية واجتماعية كان لا يمكن تحاشي توائم العبودية معها في تلك المراحل من تطور المجتمع الإنساني. ويرى مثل هذا البعض، أنه لولا النظام العبودي المطبق في مصر الفرعونية، لما كان في الوسع تشييد أهرامات الجيزة ومعابد سيناء، ولولاها أيضا، لما شاهدناه ما أنجزه البابليون من مدن عظيمة سورتها الحدائق المعلقة، حتى في بلاد الإغريق القديمة، التي يعتد الكثيرون منا بديمقراطيتها البدائية، كما جاءت في كتب إفلاطون، نقرأ للعبودية حضورا واضحا في إليادة هوميروس. والعبودية في اللغة هي مصدر للفعل عبد، يعبد فهو عبد، أي ذلّ وخضع واستسلم.
لكن وكما يبدو فإن العبودية تجدد نفسها في أشكال جديدة، وأنماط متطورة تتناسب والمراحل التاريخية التي تمر بها المجتمعات الإنسانية. وقد قرأنا مؤخرا من يصف أحوال العمالة الوافدة في بلدان مجلس التعاون بـ «العبودية». وقبل أن نتطرق إلى الحالة الخليجية، سنجد أنفسنا أمام حالات عبودية متنوعة تنتشر في بلدان العالم، بما فيها تلك التي تدعي أنها وأدت أنظمة العبودية مثل أميركا، أو قبرتها مثل أوروبا.
وقبل سنوات لم يستطع الكونغرس الأميركي من التنصل من تقديم الاعتذار للأميركان من أصل إفريقي على كل ما لاقوه من أصناف العبودية، بما حملته من آلام وإهانات، مدعيا، الكونغرس، أنه من خلال ذلك الاعتذار يضع حدا لذلك التاريخ الأسود لنشوء وتطور الولايات المتحدة المعاصرة. لكن الكونغرس لم يقدم أي اعتذار أو حتى إشارة لأعمال السخرة التي تنفذها فروع الشركات الأميركية الباحثة عن يدعاملة رخيصة، والمتهربة في آن من قوانين العمل المعمول بها في الولايات المتحدة، في دول مثل البرازيل أو مثيلاتها من بلدان أميركا الجنوبية.
فوفقا لتقرير نشره موقع الـ «سي إن إن» هنالك اليوم «أكثر من 40 ألف برازيلي يكتوون بنار السُّخرة، في حين أن أكثر من 12 مليون شخص في العالم يعانون من هذا النوع من العبودية». وحسبما نقله ذلك التقرير فقد كان هناك - في البرازيل «فريق حكومي تم تشكيله العام 1995 تمكن في العام 2008 من تحرير 4634 عاملا، وذلك عقب 133 غارة شنها على مصالح تجارية ومزارع ضخمة تعتمد على عمال يُجبرون على العمل فيها». وبدوره يقول مدير مجموعة حقوق الإنسان المسماة «ريبورتر ليوناردو ساكاموتو حول أوضاع العمال في البرازيل « إنه لا يعرف رقما مؤكدا، ولكنه واثق بأنه يوجد في البرازيل أكثر من 25 ألف يعمل في السخرة». ويذكر التقرير بأن يفترض أن تكون قد «أبطلت في البرازيل في العام 1888».
ومن البرازيل نقطع المحيط الأطلسي كي نحط الرحال في أوروبا، وتحديدا في هولندا كي نقرأ التقرير الجريء الذي كتبته الصحافية البرتغالية ماريا دو سيو نيفيس التي استحقت بفضله نيل جائزة الصحافة الأوروبية، والذي تناقلت تلخيصا للعديد من مواقع الإنترنت، والذي يصف ممارسات التمييز بحق العمال البرتغاليين والبولنديين في هولندا.
تقول ماريا دو سيو نيفيس بأن «البرتغاليون والبولنديون هم العبيد الجدد في أوربا... وهذا الكلام مبالغة إلا في أسماع من لم يعيشوا تجربة العمال المهاجرين. لا تقتصر المعاناة على قسوة العمل فقط، الوقوف عشر ساعات متواصلة في مساحة لا تتجاوز نصف متر، منذ الصباح الباكر في مصنع بارد، أو في دفيئة (بيت زجاجي) ترتفع فيها السخونة إلى درجة لا تطاق». مشكلة العمل الليلي هي النوم في النهار، عادة ابتداء من الساعة السابعة والنصف صباحا. كيف يمكنك النوم إذا كانت الشقة فوق ورشة للسيارات يبدأ العمل فيها في الثامنة صباحا، ولك أن تتخيل قوة الضوء، والضجيج القادمين من عبر النوافذ. لم أتمكن من النوم أكثر من ثلاث أو أربع ساعات في اليوم. في اليوم الرابع استفقت وعلى شفتيّ آثار نزيف».
وبوسعنا الاستطراد كي ننقل صورا أكثر بشاعة عن هذا النمط من العبودية الجديدة التي تجتاح الغرب، لكننا سنتوقف هنا كي ننتقل منها إلى بلدان الخليج كي نشاهد صورا أخرى من صور العبودية الجديدة.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2320 - الأحد 11 يناير 2009م الموافق 14 محرم 1430هـ