لقد جاء العدوان الإسرائيلي الغادر ضد أهالينا في قطاع غزة ليعبر عن وجهه بوضوح وهو أن العدو مازال عدوا لن يغير من موقفه، ولا من استراتيجيته ولا من عقيدته العسكرية. وكما هو معروف فإن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تقوم على ركائز أساسية أولها البدء بالقتال وثانيها أن يكون القتال خارج أراضيها وثالثها عدم التفرقة بين المدنيين والعسكريين ورابعها استخدام سلاح الطيران ثم بعد ذلك القوات البرية، وخامسها أن يكون القتال قصير الأمد كثيف النيران لردع الخصم وإرهابه وسادسها إرباك الخصم ودفعه لخلط أوراقه مع بعضها بعضا.
ولم يكن العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية العام 2008 مفاجأة لأحد لأن شواهده وأسبابه كانت واضحة ومعلنة، فمن حيث الشواهد عقد مجلس الوزراء الإسرائيلي أكثر من اجتماع سواء على مستواه الموسع أو المصغر، وكذلك صدرت تصريحات إسرائيلية، عديدة سافرة ومنها محذرة ونموذج الأخيرة قول أولمرت رئيس الوزراء قبل العدوان بيومين مناشدا حركة حماس وقف الصواريخ والعودة للهدنة لأن «إسرائيل» قوتها كبيرة وساحقة وليس لدى حماس، ما يماثلها، كذلك تصريحات عدوانية واضحة من إيهود باراك وغيره من القادة الإسرائيليين. وهذه القيادة الإسرائيلية هي قيادة رشيدة. وفقا لمنطق الإشادة الإسرائيلية فهي تعبر عن بلادها وشعبها في انتخابات حرة وبمنطق ديمقراطية «إسرائيل» ولذلك جاء استطلاع الرأي الذي أجري في المجتمع الإسرائيلي في 1 يناير/ كانون الثاني 2009 ليؤكد أن 95 في المئة من الشعب الإسرائيلي يؤيد استمرار العمليات العسكرية (أي العدوان) على غزة.
أما الأسباب فهي بدورها واضحة وهو قرار حماس عدم تجديد التهدئة ورفضها المساعي المصرية لتجديدها وإصرارها على العودة لإطلاق الصواريخ على أراضي ومستوطنات «إسرائيل» وفي يوم اجتماع الرئيس حسني مبارك مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في مصر في محاولة لوقف العدوان الذي كان على الأبواب قامت حركة حماس بإطلاق عشرات الصواريخ على «إسرائيل». وبعبارة أخرى رغبت حماس في إرسال رسالة لمصر ولـ»إسرائيل» وللمجتمع الدولي بأنه مهما كانت جهودكم فلن نوقف إطلاق الصواريخ ولتذهب مساعيكم إلى حيث ألقت براكش. وطبعا اتخذت «إسرائيل» من كل تلك الأعمال ذريعة لبدء عدوانها ولهذا فإن المجتمع الدولي لم يعبأ حقيقة بما تفعله «إسرائيل» من جرائم في غزة ضد المدينيين على أساس كما قالت ووزعت في رسالتها إلى مجلس الأمن الدولي قبل العدوان بعدة أيام أن من حقها الدفاع عن نفسها بكافة الوسائل ضد صواريخ حماس (التي لم تقتل أحدا ولم تدمر منزلا).
وما بعد انطلاق العدوان الإسرائيلي حتى راحت حناجر عربية في عملية مشبوهة توجه مدافعها الصوتية ضد العدو الخطأ أو بالأحرى ضد الصديق والحليف الاستراتيجي لفلسطين ولغزة وشعبها فانطلقت هتافات ضد مصر بأنها متآمرة مع «إسرائيل»، وسارت مظاهرات ضد عدد من السفارات المصرية، واقتحمت بعضها كما في عدن ومزقت العلم المصري ورفعت العلم الفلسطيني وارتاحت الجماهير الغفيرة في عدد من الدول العربية بأنها حررت فلسطين من الاحتلال المصري. وأوقفت العدوان المصري، وراح زعماء عرب وقادة يطلبون التحرك وينددون بالصمت العربي والخضوع العربي. ولنا أن نتساءل بأقل قدر من العقل والعقلانية ما هو الصمت العربي ومن هو المتهم إذا كان أكثر من رئيس دولة عربية من مناضلي الحناجر يتهم الصمت العربي فماذا فعل مثل هذا الرئيس العربي ألا يتهم نفسه؟ وإذا كانت لديه الشجاعة لماذا لم يفعل شيئا؟ وطالب بعضهم بفتح معبر رفح وهو في حالة من الغياب العقلي المعتاد لأن معبر رفح هو لا يعرف أين موقعه وماذا يفعل هذا المعبر وما هي قواعد العمل فيه؟ ونقول إن معبر رفح هو أحد سبعة معابر بين فلسطين (غزة) وبين كل من «إسرائيل» ومصر فهناك ستة معابر مهمتها السماح بمرور الشحنات والمعدات والطعام والغذاء وشحنات الوقود وكلها تحت سيطرة «إسرائيل». معبر رفح مهمته حركة الأفراد بين مصر وغزة وهو مفتوح للحالات الإنسانية منذ أن أغلق رسميا بعد الانقلاب الحمساوي على السلطة الشرعية الفلسطينية وطردها المراقبين الأوروبيين ومراقبي السلطة الوطنية الفلسطينية.
إذن التغيب العقلي العربي تحت فكرة الغوغاء الإيديولوجي السياسي أو الايديولوجي الديني وسياسة الشعارات هي التي أدت بالعرب والفلسطينيين لهذه الحالة المزرية التي ألحقت بالشعب الفلسطيني الكوارث، وأساءت لأصدقائهم وحلفائهم بأكثر مما أساءت لخصومهم بل أنها لعبت لصالح أعداء فلسطين وأعداء شعبها على مر السنين ولسنا في حاجة لتذكير الأشقاء في فلسطين بما فعلوا عبر السنين تجاه غزو العراق للكويت ولا تجاه الحكم في الأردن ولا تجاه مصر وغيرها.
التساؤل إلى متى تصر دولة عربية معنية على عدم إطلاق طلقة واحدة عبر حدودها وأراضيها المحتلة ضد «إسرائيل» وفي الوقت نفسه تطالب غيرها بفتح الحدود والمعابر بلا ضوابط ولا قيود؟ وإلى متى تصر دولة إسلامية تدعي أنها أصبحت قوة ضاربة على عدم إطلاق صواريخها بعيدة المدى ضد «إسرائيل» التي تقول مرارا وتكرارها إنها لا يجب أن تكون على خارطة المنطقة ويقف قادتها ورجال الدين فيها ينددون بالعدوان بحناجرهم دون صواريخهم ويحرضون ضد مصر؟ بل إن زعيما عربيا أو بالأحرى أكثر من زعيم يطالب مصر ويندد بها ويدعو لفتح حدودها مع غزة مخالفا القانون الدولي هل هذه الدولة تفتح حدودها لمصر ولمواطن مصر وشعبها وهو لديه بحبوحة من الثروة؟ لماذا لا يفعل الشيء نفسه ألسنا كلنا عرب؟ وزعيم عربي آخر يلوح بسيفه وهو أساسا عليه عقاب من الأمم المتحدة التي يطالب بعض رجالها بمعاقبته شخصيا على جرائم ارتكبها نظامه ضد أهله؟ أليست العقلانية ألا تطرد أهلك وقبائلك وشعبك قبل أن تفكر في حملة غيرك حتى ولو كانوا أخوة لك؟
إن عملية خلط الأوراق في العالم العربي كثيرة وعملية الأوهام أكبر وأخطر وعملية النضال بالميكروفون والصوت مأساة وملهاة. إنها مأساة لأنها لا تقدم شيئا، وملهاة لأنها تخدع الجماهير العربية المغلوبة على أمرها وتجعلها تعيش الأوهام وكوابيس الأحلام.
لسنا في حاجة للحديث عن مصر وشهدائها بسلاح «إسرائيل» المعتدية أو بسلاح الفلسطينيين الأشقاء، أو حتى بسلاح دول عربية دافعت عنها مصر عبر السنين. فلا منة وليس ذلك من سمات مصر ولا من سمات شعبها.
بقيت كلمة نقولها وندعوا إليها أيها القادة العرب والمثقفون العرب والجماهير العربية كفى خلطا للأوراق وتشويها للحقائق وندعوكم للفهم العقلاني والحوار العقلاني وعدم تصور الصديق عدوا والعدو صديقا فلكل منهما مصالح إستراتيجية. ولشعب فلسطين الشقيق، إن قلوب مصر وحبها لكم لن يتراجع مهما حدث فالمصير مشترك وواحد ولا يجب أن تخدعوا بالشعارات حتى لا تزداد الأمور تفاقما
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2314 - الإثنين 05 يناير 2009م الموافق 08 محرم 1430هـ