في الوقت الذي أصبح موضوع التكامل الاقتصادي الخليجي في صدارة الاهتمامات في المنطقة، فإن مملكة البحرين مازالت سباقة في تحقيق كل ما يصب في خدمة هذا الهدف، والوصول بمبدأ المواطنة الاقتصادية إلى الغايات المستهدفة، وبما يعكس المرحلة المتقدمة التي وصلنا إليها من التكامل الاقتصادي ضمن السوق المشتركة، كان هذا معلوما للجميع وبخاصة من يتابع مجريات الشأن الاقتصادي الخليجي والتزام البحرين بالقرارات الاقتصادية التي تم إقرارها على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وهو في الحقيقة أمر تحملت البحرين بعض تبعاته نظرا لعدم تزامن تطبيق القرارات الاقتصادية فيما بين دول المجلس في وقت واحد، ولذلك لم يكن غريبا أن ظهرت بعض الدعوات في أكثر من مناسبة تدعو إلى تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل.
الأمر في الظرف الراهن أصبح ملحا بشكل غير مسبوق لتحقيق المواطنة الاقتصادية بين مواطني دول المجلس، وكعادتها تؤكد القيادة البحرينية حسن رؤيتها للواقع الاقتصادي في المنطقة والتحديات غير المسبوقة التي تواجهنا، وإذا أردنا أن نرصد ما يثبت هذا الرأي فعلنا نستطيع أن نتوقف مليا أمام أكثر من إشارة، ولن نستدعي ما هو بعيد من هذه الإشارات، ولكننا نتوقف تحديدا أمام ما برز من هذه الإشارات في الأيام الماضية فقط.
الأبرز من بين كل الإشارات تلك المتمثلة في الرؤية التي عرضها صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد حفظه الله ورعاه بمناسبة انعقاد قمة مسقط، فجلالته يؤكد عزمه على المضي قدما على مواصلة العمل من أجل تحقيق مزيد من خطوات دعم التنسيق والتعاون القائم بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتعزيز مبدأ العمل الجماعي لمواكبة متطلبات المستقبل خاصة في المجالات الاقتصادية وحماية اقتصادياتها من تداعيات الأزمة المالية العالمية، بهذه الرؤية الحكيمة التي تدرك عمق المتغيرات السياسية والاقتصادية الجديدة على الساحتين الإقليمية والدولة، وتعي تبعات الأزمة المالية العالمية وما تفرزه من تحديات ومخاطر على أوضاعنا الاقتصادية، برمتها، واقتران هذه الرؤية بالدعوة لعمل جماعي يضمن الأمن والاستقرار في المنطقة وإدامة الرخاء والتنمية وتعزيز ما تحقق من إنجازات ومكتسبات تنموية، كل ذلك يدفع إلى تحول نوعي كبير في العمل الاقتصادي الخليجي المشترك من واقع نظرة استراتيجية افترض وجوب أن تكون غير مسبوقة، وأرى أن القيادة البحرينية مدركة تماما لهذه المسألة، فتلك الرؤى التي عرضها صاحب الجلالة الملك والتي تتكامل بشكل واضح مع ما عرضه رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة وتترجم القناعة والرغبة والوعي بأهمية هذه الاستراتيجية.
ما عرضه صاحب السمو رئيس الوزراء فيما يخص مستقبل العمل الاقتصادي الخليجي المشترك يشكل هو الآخر إشارة إلى نهج واقعي تتبناه البحرين أرى بأنه ينطلق من اختبار لمسيرة التكامل الاقتصادي وفهم دقيق للعقبات الرئيسية التي اصطدمت بها هذه المسيرة وللظروف التي لم تهيأ لتطبيق القرارات الاقتصادية التكاملية بالشكل الذي كنا جميعا نتطلع إليه، لذلك لم يكن غريبا أن يدعو صاحب السمو رئيس الوزراء الى المبادرة بتوحيد وتعزيز السياسات الاقتصادية الخليجية، والتعاطي مع التطورات الراهنة كمجموعة اقتصادية واحدة بهدف حماية المنطقة من أية أزمات تهدد اقتصادها حاضرا ومستقبلا، ولله الحمد فقد جاءت نتائج قمة مجلس التعاون الأخيرة لتصب في هذا الاتجاه ولتؤكد على ما بات يحظى به المحور الاقتصادي من أهمية غير مسبوقة سواء على صعيد إقرار الاتحاد النقدي وإزالة العقبات التي تعترض مسيرة العمل المشترك في المجالات الاقتصادية في موعد أقصاه سبتمبر المقبل، وهذه خطوة لها من الدلالات ما يؤكد على عزم دول مجلس التعاون المضي قدما نحو تعزيز التكامل الاقتصادي وتفعيل المواطنة الاقتصادية لمواطني دول مجلس التعاون.
أعود إلى الدعوة التي طرحها صاحب السمو رئيس الوزراء الموقر فهي تحظى بتجاوب قطاع واسع من المستثمرين في المنطقة على قناعة بها، وحينما تأتي هذه الدعوة من شخصية مرموقة أعطت جل وقتها للنهوض بالاقتصاد البحريني وتعزيز الثقة في مناخ الأعمال والاستثمار في البلاد، وعرف بدعمه للقطاع الخاص وتفهم احتياجاته لتجاوز أي عراقيل قد تصادفه، ويسعى دوما إلى خلق أسس أكثر صلابة وواقعية بشراكة حقيقية بين القطاع الخاص والحكومة واعتبار هذا القطاع المحرك الرئيسي للنشاط والتكامل الاقتصادي، والغوص المعمق في أوضاع العمل الاقتصادي المشترك خليجيا وعربيا، فإن ذلك لابد أن يشكل رسالة واضحة علينا أن نستوعب مضامينها، وهي كلها تؤكد ولله الحمد بأن البحرين سباقة لكل ما يخدم العمل الاقتصادي الخليجي المشترك، وقناعتها بأنه بات الانتقال من مرحلة عمل وعطاء وإنجاز إلى مرحلة نوعية أخرى من العمل والعطاء والإنجاز التي تتوافق مع متطلبات وتحديات المرحلة الراهنة، ولا تتجاهل في نفس الوقت أن مجال التنمية الإقليمية لابد أن يأخذ بعين الاعتبار العمق العربي الذي يتطلب دورا مطلوبا من القطاع الخاص العربي، هو دور نوعي غير تقليدي ينسجم مع التحديات التي تنطوي عليها المرحلة الراهنة، دور خلاق في قراءة واستشراف التوقعات المستقبلية، وهو من المؤكد أنه لن يتحقق ولن يكتمل ولن يأخذ أبعاده المطلوبة إلا بنقلة لابد -هي الأخرى- أن تكون نوعية من جانب الحكومات العربية، ويبدو أن هذا الأمر بات قريب المنال، فانعقاد أول قمة اقتصادية عربية ستعقد في الكويت قريبا يعزز من هذه القناعة وضرورة الدفع باتجاه تحقيق هذه النقلة، ونأمل أن يكون انعقاد هذه القمة دليل على استيعاب ما يجري حولنا، والاقتناع بأنه أصبح ضروريا التحرك بمنهجية عملية تختار التنسيق والأطر التكاملية والمصالح الاقتصادية فوق أي اعتبارات لا تتسلح بحكمة التاريخ التي لا ترى بأنه لا مستقبل لأية دولة إذا ما بقيت رهينة حدودها الجغرافية وانغلقت على نفسها تجاه عالم متصاعد في تعقيداته وتحدياته وتنافسيته، ويشهد كل يوم تكتلات وقوى ومنظومات اقتصادية، ومن المهم الاستفادة من التجارب العالمية في مجال التكامل الاقتصادي الإقليمي كما في السوق الأوربية ومجموعة آسيان، ففي الوقت الذي نحت الوحدة الأوربية إلى التركيز على تحرير التجارة بين بلدات ذات قاعدة اقتصادية متنوعة، ركزت مجموعة آسيان على التوجه التنموي في بلورة خطواتها في مجال التكامل الاقتصادي، حيث ركزت على تطوير البنية التحتية في كافة المجالات بين دول آسيان بالإضافة إلى استغلال اقتصاديات الحجم المتولد من فتح الأسواق بين دول المجموعة، ولعل هذه التجربة توفر بعض الدروس التي يمكن الاستفادة منها على صعيد دول مجلس التعاون الخليجي ونرى في مشاريع الربط الكهربائي وشبكة الاتصالات وسكك الحديد خطوات إيجابية في هذا المجال، وفي ظل الأزمة الحالية نرى بأن لتفعيل استراتيجية التنمية الصناعية والتي تعود لبدايات المجلس انعكاسات إيجابية جمة فيما يتعلق بتطوير وتنويع قاعدة الإنتاج في دول المجلس وخلق قيمة مضافة حقيقية إلى جانب نقل التكنولوجيا والمهارات من خلال وظائف ذات قيمة عالية.
كل تلك وغيرها اعتبارات أرى من الضروري أخذها بعين الاعتبار خاصة أننا في وقت بدأت تعاد فيه الحسابات في عالم قلنا بأنه متصاعد في تعقيداته وتحدياته
إقرأ أيضا لـ "خالد كانو"العدد 2313 - الأحد 04 يناير 2009م الموافق 07 محرم 1430هـ