ترمي الدولة الصهيونية الغاشمة من وراء مذبحتها البشعة الحالية في قطاع غزة إلى عدة أهداف ظاهرها القضاء على ما تسميه «الإرهاب» ضد شعبها «شعب الله المختار» في الجنوب وذلك من خلال محاولة وقف صواريخ حركة «حماس» والقضاء على البنية التحتية للقطاع ومن ثم إسقاط الحكومة الإسلامية أو إحداث تزمر وثورة ضد الحركة، ولكن هناك هدف معاكس تماما وهو إضعاف السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وبالتالي التهرب من متطلبات السلام المحتمل في السنوات المقبلة تحت رعاية إدارة باراك أوباما، بحجة أنه لا يوجد شريك فلسطيني غير «الإرهابيين»، وهناك هدف خفي يتمثل في ترهيب الأنظمة العربية والإسلامية بأن عهد التفكير في معاداة «إسرائيل» أو القضاء عليها ومحوها من الوجود أو حتى انتهاج سياسة المقاطعة الصارمة قد ولى، فيما يتمثل المأرب العاجل من الهجوم الجائر على المدنيين العُزّل هو إعادة انتخاب حزب كاديما بزعامة تسيبي ليفني ورفع شعبية حكومة إيهود أولمرت الحالية وذلك بعد أن تبيّن أنها فقدت شعبيتها قبل العدوان، وأن اليمين المتطرف المنافس الذي يمثله حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو سيشكل الحكومة الجديدة بعد انتخابات فبراير/ شباط المقبل.
ولكن ما يهمنا نحن كعرب هو كيفية التصدي لأي عدوان على أي جزء من الوطن العربي وماهية المواقف الرسمية والشعبية. لقد برأ الشعب العربي والإسلامي من طنجة إلى جاكرتا نفسه أمام الله من خلال التظاهرات والتضامن بالشجب والإدانة وذلك أضعف الإيمان ومن خلال الدعاء بالصمود لأهل غزة حتى يعذر كل فرد نفسه أمام الخالق عز وجل الذي سيسألنا يوم القيامة.
لقد أعذر رجال الدين أيضا أنفسهم أمام الله بالتحريض إلى نصرة غزة فذاك عالم سعودي، مثلا، يدعو إلى ضرب المصالح الإسرائيلية في كل مكان وهناك زعيم روحي إيراني كبير يعلن الحداد ويدعو المسلمين إلى أن يهبوا للدفاع عن الفلسطينيين وأن من يقوم بالنصرة له منزلة الشهداء إذا قُتلَ أو غلب. وهكذا توحدت جميع الطوائف تجاه العدو المشترك والمصائب توحد الإخوة الفرقاء.
ولكن ما يحز في النفس من أسى هو الموقف العربي الرسمي الذي لم تتمخض عنه قمة عاجلة حتى الآن لتصدر قرارات قوية وملزمة، فلدى العرب أكثر من خيار لسماع كلمتهم دوليا ولديهم شباب في بعض البلدان ينشدون القتال ويعتبرون يوم القتال يوم عيد. ولكن تشتت المواقف الرسمية بحيث لا تقبل دولة كبرى مثل مصر الشقيقة نصيحة أخوية من رمز كبير للمقاومة هو السيدحسن نصرالله. فمتى تسدى النصائح إن لم تكن في مثل هذه الأوقات العصيبة. فالرد الذي نطق به وزير الخارجية أحمد أبوالغيط كان فيه كثير من التحامل وسوء الفهم يمكنه الاحتفاظ به لنفسه. نصرالله بعد حرب يوليو/ تموز 2006 لم يعد يمثل الطائفة الشيعية فحسب بل كل القوى الشعبية المقاومة في المنطقة ونصيحته كانت ترمي إلى مساعدة الفلسطينيين الضعفاء في غزة، ولأن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لها حدود متاخمة لغزة؛ ولذلك حثّ نصرالله الشعب المصري، الذي لم يتخلف يوما ما عن إعانة الفلسطينيين بالتظاهر من أجل الضغط السلمي على السلطات وليس للثورة عليها، كما جاءت نصيحته إلى الجيش المصري لإسداء المشورة لقيادته بفتح معبر رفح قبل أن ينفجر الوضع الميداني، وبالطبع لا يعني هذا توجيهه للتمرد كما فهمها أبوالغيط والمشير طنطاوي قائد الجيش المصري.
لقد اعترف الرئيس مبارك نفسه أن معبر رفح لم يكن مفتوحا من قبل، مناقضا بذلك تصريحات كثير من المسئولين الذين حاولوا إثبات أن المعبر متاحا لدخول وخروج الفلسطينيين. لم يطلب نصرالله في الحرب الإسرائيلية على لبنان مساعدة من مصر ولم يرد حتى على اتهاماتها آنذاك بأن حزب الله هو السبب في تلك الحرب لأنه تصرف بتهور.
لذلك نستنتج، من خلال الموقف العربي الرسمي الضائع حتى الآن، أن هناك دولا عربية بعينها تقف على مسافة غير متساوية بين حركتي «فتح» و»حماس» في خلافهما على السلطة. فالبعض يشترط وجود قوات محمود عباس والمراقبين الدوليين لفتح معبر رفح على رغم أن هناك بوابتين فقط للمعبر إحداهما لقطاع غزة والأخرى لمصر والأخيرة دولة ذات سيادة فلماذا اشتراط وجود مراقبين أوروبيين لفتح المعبر والقانون دولي لا يمنع إعادة النظر في البرتوكول السابق بعد أن تبيّن أن المراقبين يتواطأون مع الاحتلال.
ولنضع النقاط فوق الحروف فإن الذين يقفون إلى جانب حركة «فتح» يعادون «حماسا» لأنها حركة تنتمي لـ«جماعة الإخوان المسلمين» أو تحمل فكرهم وهم يخشون سطوة أميركا إن لم تستأصل هذه الجماعة الساعية إلى تأسيس أنظمة إسلامية في بعض دول المنطقة وبمساعدة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما يزعمون. لقد لاحظت هذه الأيام أن صحيفة عربية دولية واسعة الانتشار لم تنشر صورة واحدة لجثث الشهداء في غزة سواء على صفحاتها الأُول أو في الصفحات الداخلية وعندما تصفحتها ذات مرة وجدت أن أحد كتابها المسئولين يتهكم في مقال على زعيم «الإخوان المسلمين» في مصر مهدي عاكف، ويقول عنه إن هذا الرجل (عاكف) أيّد المد الشيعي في المنطقة، وذلك على خلفية التصريحات التي أطلقها الشيخ يوسف القرضاوي في الشهور الماضية. فتحسرت في نفسي هل هذا هو الوقت المناسب لإثارة هذه القضية من جديد والفلسطينيين يذبحون؟ وتيقنت مع متابعتي لهذه الصحيفة التي تدعي أنها صحيفة كل العرب أن لديها موقفا من تغطية المذبحة في غزة لأن القطاع يدار من قبل «الإخوان المسلمين»!.
إن الهجوم الجائر على غزة لا يزيد «حماسا» إلا قوة لأن الفطرة الطبيعية لدى الشعوب تقف دائما إلى جانب المظلوم فيما سيضعف هذا الهجوم السلطة الفلسطينية بزعامة محمود عباس وأيضا الأنظمة العربية. لا يعني هذا أن جميع الفلسطينيين أصبحوا يحبون «حماس» ولكن من فقد أخا أو أختا أو ابنا في وابل القنابل الإسرائيلية فإنه لن يعطي صوته الانتخابي لسياسي صديق لـ«إسرائيل». ولذلك فإن على «إسرائيل» أن تغير حتى اسم العملية العسكرية هذه «من الرصاص المسكوب أو المتدفق» إلى اسم «الدم المسال أو المذبحة بلا جدوى» لأن هذا الرصاص لا يخلق هوة بين «حماس» والشعب الفلسطيني الذي لا يتعب من النضال حتى يتعب السفاك من سفك دمه.
إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"العدد 2311 - الجمعة 02 يناير 2009م الموافق 05 محرم 1430هـ