لا تزال الأفكار الخاصة بحقوق الإنسان، وتطوراتها المتعددة، تلاقي ضروبا مختلفة من اللامبالاة، أو الفهم المنقوص، أو الوعي المغلوط والمبتسر في قطاعات واسعة من المواطنين في المنطقة العربية، وربما يرجع ذلك إلى أن منظمات حقوق الإنسان، تركز دائما على الانتهاكات الجسيمة للحقوق السياسية، وهي أمور تهمّ الصفوة السياسية المعارضة في البلاد، أكثر من القطاعات الشعبية، التي تركز غالب اهتماماتها على أمور الحياة اليومية ومشاكلها وضغوطها المتعددة. وهناك أسباب أخرى تركز على بعض الجوانب الهيكلية التي تواجه دعاوى حقوق الإنسان، وخاصة في ظل المرحلة الراهنة في التطور السياسي في المنطقة العربية، ولاسيما في ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية - الاجتماعية وتفجر العنف الاجتماعي والسياسي ذي الأقنعة الدينية، وتبلور اتجاهات سياسية - دينية يطرح بعضها مجموعة من التصورات والمفاهيم التي قد تشكل في نظر دعاة حقوق الإنسان موقفا مضادا لهذه الحركة العالمية الإنسانية.
ما هي المصادر التي تقاوم نظام حقوق الإنسان؟ ثمة مصادر متعددة تغذي الوعي والمخيلة الجماعية بتيارات من اللامبالاة، أو الرفض والعداء لفكرة حقوق الإنسان وتطوراتها المتعددة. أول هذه المصادر الربط بين نظام حقوق الإنسان والنموذج الحضاري والثقافي الغربي، واعتبار هذا النظام أجنبيا، ومن ثم يحدث ارتباط ذهني وشعوري ووجداني بين هذا النعت أجنبي - غربي وبين كل المواريث المرتبطة بالصراعات مع الغرب، وتتدفق النعوت السلبية، كالهيمنة والاستعمار والاستغلال والاختلاف الديني والتحلل الأخلاقي، كل هذه الصور السلبية النمطية التي صيغت عن الغرب في علاقته بالعالم العربي.
وتزداد هذه العقبات من مصدر هام، هو طبيعة النظام الثقافي والقيمي الذي تطرحه بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية، وفقا لتفسيرات متشددة تركز على الجوانب الخاصة بالحاكمية والألوهية والإلهيات على وجه العموم وعلى الشريعة في جوانبها الخاصة بالحدود.
أحد أبرز العقبات إزاء حركة حقوق الإنسان تستمد من طبيعة الممارسة التسلطية السياسية على مدى عقود تاريخية طويلة. مثل هذه الممارسة رسخت في الوعي الجماعي للعرب إحساسا بعدم جدوى الحريات العامة التي تنتهك يوميا، ولاسيما وأن أغلب النظم التسلطية، إن لم يكن كلها، كانت تطرح خطاب الحريات العامة والديمقراطية باعتباره من أهم وعود وأساطير دولة ما بعد الاستقلال، وأن هذه الوعود - الآمال سقطت بالتجربة في مجال الحريات المدنية التي تعرضت لمحن عديدة في ظل حكومات دولة ما بعد الاستقلال الوطني. وثمة مصادر هيكلية ترتبط بالتطور التاريخي لهياكل المجتمعات العربية، وهو أن الفرد ذاته لم يولد ككيان اجتماعي- سياسي فاعل له حرياته، وهوامشه وفكره الحر، وهناك قيود على ميلاد الفرد كفاعل اجتماعي وهي قيود تأتي من نظام القيم والتنشئة الاجتماعية البطريركية - الأبوية ودور الأسرة ودور الأشكال المختلفة من الرقابة السرية التي تمارس باسم الأسرة والدين والسياسة... الخ، والتي تحدد هيكل المحرمات السائد في المجتمع. لا يمكن أن نكون إزاء مجتمع بالمعنى الدقيق للكلمة، ومجتمع مدني - كما حدث في الغرب - في ظل سيولة اجتماعية، وابتسارات هيكلية للنظام الاجتماعي، إذن لا مجتمع دونما فرد وبلا هيكليات طبقية متبلورة، ولها آلياتها في التضامن، وقواعدها في الصراع والتنافس السياسي - الاجتماعي، وأيضا آليات للتوازن، وإعادة التوازن الهيكلي. وما يسري على الفرد والمجتمع يسري أيضا على مستوى بنية السلطة السياسية، وأيضا الصفوة الحاكمة. حيث تختلط شخصية من بيدهم زمام السلطة وبين السلطة ذاتها، وبينهم وبين الدولة، ناهيك عن شيوع أنماط الفساد السياسي والهيكلي والوظيفي بين أصحاب السلطة والصفوة السياسية وزبائنها وبين الموظفين العموميين. كلها أمور تقف عائقا ضد شيوع نظام حقوق الإنسان والتطور الديمقراطي السلمي في الدول العربية.
هناك تركيبات اجتماعية لا تزال تشكل عوائق ضد نظام حقوق الإنسان تحت دعاوى الخصوصية، لعل على رأسها مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيات المحلية - وأساطيرها المختلفة - والتي تتساند وتتفاعل في ديناميكية فريدة مع مفهوم الأبوية - البطريركية - التقليدية، أو الحديثة الممثلة في الدولة وقائدها. ومثل هذه المفاهيم تتسم بالفاعلية، والرسوخ المستمد من طبيعة التطور الاجتماعي في العالم العربي والتشكيلات الاجتماعية والثقافية الأساسية والفرعية في هذه البلدان. هذه التركيبات الفسيفسائية، وأسسها العرقية والقومية والطائفية واللغوية والمللية والدينية، تمثل عقبات بنائية ضد نظام حقوق الإنسان بل أن العائلة الممتدة في مناطق عديدة، داخل هذه التركيبات لا تزال تمثل عقبة أخرى من العقبات.
ولعل أخطر هذه العقبات قاطبة هو سيادة العقل المغلق والسلفية الفكرية - لدى غالب القوى السياسية والثقافية والحزبية - حيث يعاد إنتاج مصادر الأفكار داخل كل جماعة، دونما تجديد أو اجتهاد، مما يعيد إنتاج الحدود بين المدارس الفكرية والسياسية والعملية في هذه المجموعة من الدول ومجتمعاتها. وتتفاقم مشكلات العقل المغلق مع انتشار موجة من العنف السياسي ذي الوجوه الدينية والطائفية. وانكسار الجسور بين مدارس الفكر والعمل كافة يزيد الأمر خطورة في ظل غياب التسامح الديني والفكري إزاء الأغيار بالمعنى الديني أو السياسي، ناهيك عن لجوء الأفراد والجماعات لممارسة الاغتيال المادي للمغايرين لهم فكريا، بما يمثل تهديد للحقوق الأساسية للإنسان.
وتتزايد خطورة الأوضاع الراهنة، والانتهاكات التي تحفل بها تقارير المنظمات غير الحكومة العاملة في مجال حقوق الإنسان - بكل مواءماتها - في ظل طرح إشكاليات الخصوصية والهوية إزاء الأطروحات الغربية لحقوق الإنسان.
إن الخصوصية تبدو في خطاباتها المتعددة - سواء من الدولة أو من القوى السياسية غير الحكومية - وكأنها دعاوى للدفاع عن انتهاكات الدولة، وأطراف غير حكومية، أو للتغطية على هذا النمط الفظ من الانتهاكات. وكأن الخصوصية تقتضي عدم احترام الإنسان.
ثمة تواطؤ ما بين قطاعات من المثقفين أشباه الحداثيين مع السلطة، جلبا للمنافع الذاتية، وتغاضيهم عن ظاهرة توحش قوة الدولة البوليسية، وآلاتها القمعية «المشروعة»! ما أدى ولا يزال إلى تآكل دولة القانون الحديث وسيادته. وما زاد الأمر تعقيدا تشكيك قوى سياسية، وفئات اجتماعية واسعة في مفاهيم سيادة القانون والقيمة التي يحملها خطاب الحداثة القانوني، وحقوق الإنسان. مثل هذه الممارسات ساهمت في تآكل وانهيار التقدم والحداثة وحقوق الإنسان في الدول العربية.
هناك عوامل أخرى تساهم في إعاقة وحجز دعاوى حقوق الإنسان منها ضعف المنظمات الوسيطة، وأزمة مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان ذات الطابع النخبوي، وتحول الأطروحات السياسية والأيديولوجية المهزومة ودعاتها ومناصريها إلى مجال حقوق الإنسان.
*باحث مصري ومدير مركز الكنانة للبحوث والدراسات بالقاهرة، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2306 - الأحد 28 ديسمبر 2008م الموافق 29 ذي الحجة 1429هـ