خلال احتفاله بالذكرى السنوية الـ 34 لقيام ثورة الفاتح من سبتمبر/ ايلول 1969، التي اوصلته إلى السلطة، لم يخرج العقيد معمر القذافي في خطابه هذه السنة ايضا عن المألوف سواء من ناحية توجيه رسائل إلى مختلف الاتجاهات، أو من ناحية تمرير الايحاءات بالسياسة الداخلية التي يجب على مستويات النظام الجماهيري كافة - من مؤتمرات شعبية اساسية (قاعدية)، ومؤتمر شعب عام (برلمان، وكومونات) ولجان شعبية وثورية - اعتمادها مع بداية كل عام جديد، محفوفة بموازنة يصعب على الاقتصادي «الكلاسيكي» فك رموزها.
لكن المهم، وللمرة الاولى أن الخطوط العريضة لخطابه بالمناسبة، كانت معروفة سلفا. إذ تعمد تسريبها للجهة التي تقود عملية «الانفتاح المحسوب» سياسيا واقتصاديا كي تنقلها لمن يهمه الامر في الخارج، اعني على وجه التحديد، الولايات المتحدة الاميركية التي يسعى النظام الليبي جاهدا لاقناعها بحسن نواياه تجاهها، وبأنه قد تغير واصبح اكثر نضوجا وبات من أوائل المتصدين للارهاب الدولي، كما انه مستعد لتقبل شروط العولمة ودخول اقتصاد السوق وفتح ابواب كل القطاعات امام الاستثمار الاجنبي، بما فيها الهيدروكربورات التي كانت ولا تزال من المحرمات، مثلها في ذلك مثل اظهار العائدات النفطية في الموازنة، اومردود الاستثمارات المالية الخارجية، المعتبرة بمثابة خطوط حمراء لا يمكن لاي كان خارج دائرة واحدة تجاوزها. ولا يمكن ايضا للحكومة التي من المفترض ان تتولى عمليا تحديد اوجه صرف الموازنة ان تسأل أو ان تراقب أو حتى ان تناقش كل ما يتعلق ايضا بنفقات الجيش والشرطة واللجان الثورية، «العين الساهرة» للنظام.
يصعب على كل المحللين السياسيين، وخصوصا الغربيين منهم اعطاء تفسير علمي لهذه الظاهرة المعقدة. فالنظام ليس فقط غير كامل، بل غير واضح المعالم، بحيث ان الشكل والتطبيق والخطاب السياسي لم تكن في يوم من الايام مترابطة فيما بينها، ولم يفهم الغرب حتى الآن ما يسمى «بسلطة الشعب» وبمقولة « الكتاب الاخضر»، «شركاء لا اجراء» أو «اللجان في كل مكان»، و «التمثيل تدجيل»، وذلك لانه لم يعرف أو لم يقرأ، انه في الماضي عمدت القبائل الليبية لتنظيم مجموعات سياسية تضم نحو 200 الف شخص، بغياب رجال شرطة أو قضاة أو جيوش، من دون جباة ضرائب ولا حتى أمراء. هذا ما اعتبره بعض الباحثين مثل جون دايفيس بمثابة عنصر من عناصر الابداع الانساني الذي يستحق من العرب تعمقا وفهما افضل.
على اية حال، اعتبر المراقبون ان المحاور الاساسية التي وردت في خطاب العقيد الاخير عن «القبول بإدارة اميركا للصراع، مهما كانت مزورة او مفروضة»، وتغيير النهج بما يتماشى ومعايير الشرعية الدولية والتخلي عن دعم حركات التحرر الوطني في العالم، بأنها ترديد لما سبق أن نقله القذافي لبعض المسئولين الافارقة والعرب ممن التقاهم قبل اسابيع قليلة، تحديدا بعد اجتماعه بوزير الدولة البريطاني للشئون الخارجية مايك أوبريان، يوم الاربعاء في 7 اغسطس/ آب، في معقله في مدينة سرت.
كما لا يبدو اعلانه اطلاق سراح عدد من السجناء المتهمين بالجاسوسية ومعاداة الدولة، واستثناء السجناء الذين لهم علاقة، بحسب قوله بتنظيم القاعدة وطالبان ومعاملته لهؤلاء الزنادقة بالطريقة نفسها التي تعامل بها اميركا المحتجزين في قاعدة «غوانتنامو»، كان مقنعا للمراقبين الغربيين، وخصوصا ان هذا الاعلان جاء بعد اسبوعين من حملة مداهمات قامت بها اجهزته للمساجد في بعض المدن مثل: طرابلس الغرب وبنغازي ومنطقتي الجبل الاخضر اللتين تضمان مجموعات اسلامية نشطة، ومحيط منطقة الزاوية القريبة من طرابلس العرب، حيث للزوايا الصوفية تأثير كبير وفاعل لدى المواطنين تاريخيا ومن المؤشرات الاخرى على غياب هذه المنهجية في خطاب الزعيم الليبي، اتهامه لمواطنيه بتشجيع الفساد وابلاغهم بتخليه عن الشأن الليبي «لمهمات استراتيجية ودولية». ما لم يقبضه الليبيون، خصوصا فئات الشباب التي تعودت على سماع هذه المعزوفة منذ سنوات وتستمر في مقاطعة الدولة عبر رفض العمل بإداراتها التي تتأخر شهورا عن دفع الرواتب، المجمدة اصلا منذ عدة سنوات، على رغم رفع الحصار الاقتصادي وزيادة المداخيل النفطية مع الزيادة الملحوظة على اسعار الهيدروكربورات وثباتها منذ العام 1999.
ويرى بعض السياسيين الليبيين من داخل النظام أن «الاخ معمر» ارتكب خطأ اضافيا يدل على عدم الترابط في الافكار، عندما انتقل لتحميل اختفاء الامام موسى الصدر في ليبيا «لفترة الحرب الباردة والصراع بين الشيعة والسنة والمسيحيين والمسلمين، وبين الفلسطينيين واللبنانيين» !!.
خلط مقصود، ام تخبط فعلي ناجم عن تجاذبات داخلية بين مراكز قوى ترفض الانفتاح والتخلي عن امتيازات ونفوذ تراكمت منذ اكثر من 25 سنة وبين مجموعات يقودها نجلاه سيف الاسلام والساعدي. الاول الذي كلفه بمهمات سياسية والاشراف على كل ما يتعلق بالعلاقات مع شركات النفط الاجنبية، والثاني وجهه نحو مراقبة العمل الاستثماري المالي، انطلاقا من ايطاليا مركز الانطلاق، ونصبه بشكل واضح مشرفا على شركة «لافيكو» (الشركة العربية الليبية للاستثمارالخارجي). الذراع المالية للنظام، التي طالما عمل العقيد القذافي على عدم السماح بالتدخل بشئون ادارتها لغير العاملين فيها من الخبراء من خريجي كبريات الجامعات العربية مثل: هارفرد ويال في اميركا واكسفورد وكمبريدج في بريطانيا.
على هذا السؤال المتعلق بالخلل، يوضح احد المستشارين البريطانيين لسيف الاسلام القذافي، أن ما يقال عن خلط مقصود هو غير صحيح، لان المسألة تنحصر في ضبابية الموقف الاميركي الذي لم يساعد حتى الان القيادة الليبية على تنفيذ ادارتها السياسية القاضية بالانفتاح نهائيا وطي صفحة الانغلاق والاقتصاد الموجه. فرفض واشنطن المستمر رفعا نهائيا للعقوبات المفروضة على ليبيا على رغم التعهدات بدفع ما يطلب منها لاسر ضحايا لوكربي و «التسلفيات»الاخرى على الحساب التي قدمها الليبي الحادي عشر من سبتمبر 2001 لاميركا عبر بريطانيا، والتي تلخصت في إعطاء لوائح كاملة بأسماء المئات من الاسلاميين وما يسمى بالارهابيين الأمميين الذين تصدوا «للامبريالية الاميركية» فيما مضى ، خلال عقود السبعينات والثمانينات وبداية عقد التسعينات، هو السبب الفعلي في عدم وجود منهجية لدى القذافي حاليا. يكفي ان يقترح على اميركا واوروبا المساهمة معه في ربط النهر الصناعي ببحيرة تشاد، بدلا من التفكير ببن لادن وكارلوس وابو نضال، كما قال في خطابه الاخير، ليفهم الجميع ابعاد الحال التي يعيشها في هذه المرحلة والتي يحاول خلالها الهروب إلى الامام عبر الغوص في الشئون الافريقية، علما بأنه تلقى «صفعة» عند اعلان الاتحاد الافريقي منذ اشهر في جنوب افريقيا بحيث ان اقتراحه بالوحدة الافريقية قوبل باستخفاف على رغم الجهود المضنية التي بذلها والمبالغ الضخمة التي وزعها على رؤساء الدول الافريقية الفقيرة.
وعلى رغم هذه المعطيات وهذا التشخيص، فإن النظام الليبي هو الآن الأقوى من اي وقت مضى فمن الناحية السياسية ، فإن المخاطر من معارضة داخلية أو خارجية شبه معدومة، هذا ما فهمه واقرت به اجهزة الدول الغربية ولو متأخرة عشرات السنين، ناهيك عن ان النظام عرف كيف يضرب منذ البداية وفي فترات محددة مكامن الخطر عبر تصفية من يمكنهم في وقت من الاوقات التأثير بالعمق، هذا من جهة ومن جهة اخرى نجح في استمالة ما تبقى منهم عبر وسطاء خارجيين تارة، وموظفا الحال القبلية تارة اخرى. امامن الناحية الاقتصادية، فإن الوضع يعتبر الامتن بالمقارنة مع غالبية الدول العربية الربعية الاخرى ، بغض النظر عن كون مستوى دخل الفرد والقوة الشرائية للمواطن لا تتوازى مع العائدات. ناهيك عن ان ليبيا هي من البلدان القليلة غير المدينة لا للبنك الدولي ولا للصناديق المالية الاقليمية.
صمامات الأمان
لقد وعى زعيم ليبيا الشاب (معمر ولد الخيمة) - كما يحلو للمقربين منه إطلاق هذه التسمية عليه - بعد سنوات قليلة من تسلمه زمام الامور، ابعاد وأهمية التوازنات القبلية في ضبط ايقاعات النظام ودرء المخاطر عنه. فكان ان استبدل وعلى مراحل، من دون ضجيج يذكر، صيغة الاحزاب السياسية القاتمة خلال عهد الملك ادريس السنوسي وبالتالي تجربة «الاتحاد الاشتراكي العربي»، من خلال اشراك القبائل الليبية في اللعبة وفي إدارة شئون البلاد، ذلك، مع الحرص على التهجم في كل مناسبة سياسية على «الاقطاع والمحسوبية والقبلية». هذه الظواهر السيئة التي تتناقض مع مبادئ الثورة، والتي تجب محاربتها من دون هوادة.
هكذا، فقد تم توزيع ابناء القبائل على مرافق الدولة ومؤسساتها كافة، بدءا بالجيش، وقطاع النفط الذي اداره بحكمة متناهية طوال نحو عقدين، الرائد عبدالسلام جلود، والشرطة واللجان الشعبية والثورية لكنه احتفظ بالمفاصل الرئيسة للنظام عبر تكليف ابناء قبيلته «القذاذفة» بحمايتها والسهر عليها. واستمر الحال على هذا المنوال مع التركيز على عدم اظهار هذا الواقع للعلن منذ نهاية السبعينات. وساهم في نجاح هذه التجربة المعتمدة تاريخيا من قبل جميع الذين حكموا ليبيا في السابق - علما بان القذافي هو اول رئيس من اصول ليبية - التحالفات التي اقامها بتوازن دقيق مع مختلف القبائل، كبيرة كانت أو صغيرة، عبر اعطائها حيزا من الامتيازات أو اجراء مصاهرات مصلحية مدروسة مع بنات وابناء وجهائها، الامر الذي ضمن للنظام استمراريته منذ 34 عاما وابعد عنه الكثير من المخاطر والمحاولات الانقلابية باشكال متعددة.
واذا كانت هذه التوازنات القبلية آمنت بنجاح صيغة «تزاوج الثروة والثورة»، وتشكيل صمام امان للنظام الجماهيري الذي وصفه بعض علماء الانتروبولوجيا الاجتماعية من الاوروبيين، لمجتمع من دون حكومة ومن دون نخبة سياسية، حيث يقوم السكان بالحفاظ على السلم الاهلي والنظام بفضل خليط من التفاهم والتهديد، فإن مرحلة الانفتاح المطروحة حاليا تتطلب صيغة توازنية من نوع آخر، لا يزال العقيد القذافي يبحث عن كيمياء سياسية لها. في هذا الاطار تؤكد بعض الاوساط المقربة من «القائد»، انه يراهن هذه المرة على الاختراقات التي احدثها نظامه في اوروبا خصوصا في بريطانيا. كما يعول كثيرا على حلفائه التقليديين والاستراتيجيين، كما يسميهم، اي ايطاليا والفاتيكان، الذين ساعدوه وناصروه خلال فترة العقوبات، وساهموا بتسهيل عمليات التفافه المتقنة على الخطر وادواته. كما خففوا من ضغوطات اعدائه، بمن فيهم المعارضة الليبية في حينه. لذلك فمن المتوقع اليوم ان يلعب الورقة الاقتصادية والمالية التي بحوزته إلى ما لا نهاية، مستغلا احتياجات الشركات الغربية من نفطية وصناعية وغيرها للسوق ومشاريعها وحقوقها النفطية والغازية، وانتاجها من البتروكيماويات، وفوائض رساميلها التي تتجاوز بحسب تقديرات بعض مصارف الاعمال الاوروبية والسويسرية نحوا من 36 مليار دولار.
فالنظام الليبي، الذي عرف كيف يلعب لفترة طويلة على اوتار احتياجات اوروبا لنفطه الثيب جغرافيا والجيد نوعيا، سيستخدم لافتة المشاريع التي ينوي تحقيقها في السنوات العشر المقبلة في مجال البنيات التحتية، للضغط وصولا لرفع العقوبات نهائيا عنه ولقد نجح حتى الان في دخول المجال اليورو - متوسطي ولو بصفة مراقب، كما نجح في عقد مؤتمر لوزراء خارجية دول البحر المتوسط في عاصمته طرابلس الغرب منذ حوالي ثلاثة اشهر. فالتلويح بمشاريع قيمتها 30 مليار دولار كافية لتسيل لعاب اكبر المجموعات الصناعية الاوروبية التي يتدافع مديروها منذ اكثر من سنة على ابواب «الجماهيرية العظمى»، التي تعرف كما يقول احد المعلقين السياسيين الفرنسيين البارزين : «تعليم الاوروبيين رقصة هز البطن»، خصوصا وانها تعتمد سياسة التأجيل وعدم البت النهائي قبل الحصول على وعود جازمة بالضغط على اميركا لرفع نهائي للعقوبات.
ان متانة الاقتصاد الليبي الذي ستبلغ مداخيله من الهيدروكربورات وحدها ما يقارب الـ 26 مليار دولار بنهاية الجاري، من دون الحديث عن مداخيل البتروكيماويات المقدرة بخمسة بلايين دولار والاستثمارات الخارجية التي يمكن ان تصل إلى ستة بلايين دولار تشكل صماما اضافيا للنظام المدعوم باحتياطات من العملات الاجنبية من دون الذهب تتجاوز الـ 35 مليار دولار
العدد 23 - السبت 28 سبتمبر 2002م الموافق 21 رجب 1423هـ