تستعد البحرين لخوض تجربة انتخابات مهمة في 24 أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وهنا قراءة سياسية في معنى الديمقراطية وتطورها.
الديمقراطية لغويا كلمة قديمة كانت معروفة عند الإغريق (قدماء اليونان) وهي مكونة من مقطعين هما «ديموس» وتعني الشعب، و«كراتوس» وتعني السلطة وبمجموع المقطعين معا (Democracy). فالكلمة تعني حكم الشعب أو سلطة الشعب، أو حكومة الشعب، بمعنى حكم الشعب للشعب، أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه.
ويقول البعض إن الديمقراطية كلمة يونانية مركبة تركيبا مزجيا من لفظين هما الشعب والسلطة، وبذلك يكون معنى الكلمة سلطة الشعب، أي نظام الحكم المستمد من الشعب، وفي ذلك تمييز للديمقراطية عن نظام الحكم الفردي، وحكم فئة قليلة من الأفراد، وقد سرت هذه الكلمة (الديمقراطية) من اليونان إلى اللغات كلها قديمها وحديثها.
إلى المعنى اللغوي هناك المعنى الاصطلاحي. فيقصد بالديمقراطية اصطلاحا ذلك النظام السياسي الذي يعطي السيادة للشعب أو غالبيته ويمارسها بصورة فعلية، فهي مذهب سياسي، وهدفها الحرية التي تنطوي على احترام حرية الأقليات وحقوقها. فالديمقراطية تعني على حد قول إبراهام لنكولن (رئيس الولايات المتحدة) في نهاية القرن الثامن عشر ان «حكومة الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب»، وبمعنى آخر الديمقراطية هي حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه.
ويتضح من هذا التعريف أن نظام الحكم الديمقراطي يتضمن أمرين هما: الغرض من نظام الحكم، ووسائل إسناد السلطة.
أما عن غرض الديمقراطية فتحقيق السيادة الشعبية في معنى أن يكون الشعب هو صاحب السلطة السياسية، لا على اعتبار أن تحقيق السيادة الشعبية غاية في حد ذاته، ولكن في اعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية والمساواة والعدالة، وهي القيم الأساسية التي تحدد غايات الحكم الديمقراطي. إذن فغايات النظام الديمقراطي هي الحرية والمساواة والعدالة.
أما من حيث الوسائل التي تتحقق بها أغراض الديمقراطية فلقد تطورت هذه الوسائل بتطور المجتمعات.
وللديمقراطية عدة مصطلحات:
1- الديمقراطية السياسية: التي تقضي بحق المواطنين بالاقتراع السري العام.
2- الديمقراطية الاجتماعية: تعني العدالة وتكافؤ الفرص لكل المواطنين.
3- الديمقراطية الشعبية: تطلق على النظم الشيوعية.
وبتعريف شامل للديمقراطية نجد أنها الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطات لرقابة رأي عام حر، له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه.
ما تقدم يؤكد أن هناك شبه إجماع على التعريف اللغوي والاصطلاحي للديمقراطية من قبل الباحثين. كما أن التعريف اللغوي لا يبعد كثيرا عن التعريف الاصطلاحي للديمقراطية، وباستعراض التعريفات في معظم المراجع، يتضح اتفاقها على تعريف واحد وقد يكون الاختلاف في الصوغ فقط، ومقتضى ذلك كله أن تكون السلطة في يد كل فئات الشعب ولا تستحوذ عليها فئة واحدة، وأن يستهدف الحكم خير الشعب ورفاهيته.
لمحة تاريخية عن الديمقراطية
مثلما كانت الفلسفة «اختراعا يونانيا»، فكذلك كانت الديمقراطية «ابتكارا يونانيا»، أخذت مكانها في اللغة الإغريقية وانتقلت منها مثل الفلسفة إلى اللغات كلها بعد ذلك. وكانت مدينة أثينا محل ميلاد الديمقراطية، ولعبت دورا فعالا في إنماء الديمقراطية ونضجها إلى جانب الفلسفة. ومن أبرز مظاهر الارتباط بموطن الاختراع، أن الفلسفة اليونانية بلغت أوج ازدهارها في ظل سيادة الديمقراطية في أثينا، ومن أثينا إلى سائر دول العالم انتقلت الفكرة واتسع مفهومها.
ان فلاسفة الإغريق هم أول من استنبطوا فكرة الديمقراطية، فقد ذكرها أفلاطون حين قال: إن مصدر السيادة هو «الإدارة المتحدة للمدينة» (أمن الشعب)، وقدم أرسطو الحكومات ووزعها إلى ثلاثة أنواع: ملكية، وأرستقراطية، وجمهورية. وكان يقصد بالحكومة الجمهورية الحكومة التي يتولى زمام الأمور فيها جمهور الشعب أو عدد كبير من أبناء الأمة. طبقت الفكرة الديمقراطية في المدن اليونانية القديمة مثل أثينا، فكانوا لا يعترفون بالسيادة إلا للقانون، وهذا القانون ما هو إلا رأي مجموع أهل المدينة أي أن السيادة في نهايتها ترجع إلى أهل المدينة.
كانت أثينا في نحو العام 500 قبل الميلاد تخلصت كل التخلص من عهودها الأوتوقراطية، وعهودها الأولغارثية، وصار الحكم كله بيد الشعب. كانت أثينا الدولة المدينة، تتألف من أحرار، عبيد، ومن فئة ثالثة، لو أننا أردنا أن نسميها باسم المثيل العربي لها، لقلنا الموالي، إنهم العبيد من بعد اعتاق. ولم يكن يعدّ أثينيا إلا الأحرار، وقيل إنهم كانوا الثالث من السكان. وقيل غير ذلك. كانوا قلة على كل حال، وكان للأحرار وحدهم الثقافة والفكر، وكان عليهم وحدهم الحرب. وكان لهم الفراغ، وكان هم وحدهم الناس في معنى الديمقراطية، حكم الناس بالناس. أما سائر الخلق في المدينة فكانوا بمعزل عن كل شيء. فكانت ديمقراطية الأثينيين وحدهم، ديمقراطية الأحرار، وكان الرق فيهم شيئا عاديا طبيعيا، وكانت لهم مجالس أكبرها الجمعية العمومية. ولم يدم عهد الديمقراطية الذهبي في أثينا، فقد أيقظ مجدها حسد أعدائها، وتكاثروا عليها، فكان في هذا على الديمقراطية القضاء.
ديمقراطية روما
روما القديمة عرفت الديمقراطية أيضا، سواء في عهدها الملكي أو الجمهوري، في لجانها ومجالسها الشعبية. ثم جاء القياصرة فاستأثروا بالسلطان وكان الحكم فرديا مطلقا.
ودفنت الديمقراطية الأولى، مع المدينة الأثينية، وظلا في هذا القبر معا قرونا طويلة، تعاقبت فيها على الأرض الأمم، وتبدلت وتغيرت المذاهب والنحل. ثم جاءت العصور الأحدث فقام أهلها إلى هذا القبر ينبشون. فأخرجوا أثينا، وأخرجوا معها الديمقراطية. وكان الانجليزي جون لوك أول من تحدث بشكل مباشر وصريح عن الحكومة المدنية في كتاب أصدره العام 1690، ويحمل العنوان نفسه، وكان كتابه هذا دعوة صريحة للثورة على رجال الدين والملوك للحد من سلطانهم المطلق في الحكم. وتضمنت الأفكار التي طرحها في كتاب أهمية الديمقراطية في اختيار نواب عن الشعب، وأهمية الديمقراطية النيابية، ولم يتعرض لفكرة فصل الكنيسة عن الحكم، وهي النقطة التي يرتكز عليها الفكر العلماني في فصل الدين عن الدولة. ومن انجلترا انتقلت الدعوة إلى المدنية إلى فرنسا وكان كتاب «العقد الاجتماعي» الذي أصدره الفيلسوف جان جاك روسو في العام 1762 الذي طالب فيه بسيادة الشعب في اتخاذ القرارات، وتحدث عن العلاقة التي يجب أن تكون بين الحكومة والشعب والقائمة على الديمقراطية والاختيار. فالدعوة إلى المدنية كانت أساسا ضد الاستبداد بالحكم ويوم مشاركة الشعب فيه بأي صورة من الصور. والعلمانية قامت أساسا من أجل الفصل بين السلطة الدينية وشئون الحكم. فالفارق واضح، وما جعل اللبس قائما أنه بعد الثورة الفرنسية العام 1789، أخذت فرنسا بالديمقراطية إلى جانب العلمانية معا أي فصل الدين تماما عن نظام الدولة، والمدنية في تعدد التنظيمات. وعبر ذلك المخاض الطويل للفكر السياسي في أوروبا آمن الشعب بالمسلمات الآتية:
الشعب نفسه هو المصدر الأصلي للسلطة، لقد تنازل عنها وفوض وزرها للملك، ومن حق الشعب أن يسترد السلطة إذا أخل الملك وفعل ما يخالف طبيعة التوكيل.
والثورة الفرنسية كرست مبدأ الديمقراطية عبر إعلان دستوري يقر بأن الشعب هو المصدر لكل سلطة.
وعلى هذا يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها الديمقراطية إلى أربع مراحل في اعتبار أن الديمقراطية مذهب ونظام، اذ ازدهرت في بعض المراحل بينما اندثرت في مراحل أخرى وذلك على النحو الآتي:
المرحلة الأولى (الديمقراطية اليونانية القديمة)
لها سمتان أساسيتان
1- أنها كانت ديمقراطية مباشرة، في معنى مشاركة الشعب مباشرة في حكم نفسه عن طريق الجمعية التي يشارك فيها ويتناقش من خلالها كل من تتوافر فيه شروط مباشرة للحقوق السياسية.
2- أنها لم تكن تعرف الحرية في معناها الحديث. فالفرد يدين بدين الدولة ويخضع لقوانينها مهما كانت مجحفة لحقوقه أو حرياته الشخصية، فليس معنى اشتراك الشعب في الحكم أن يصبح من حقه امتلاك سلطة إصدار القوانين التي تحقق لأفراده حرياتهم الشخصية.
ولعل السبب في ذلك كما يقول «دوجيت» أن تعريف الحرية عند قدامى اليونان كان مشتقا من المساواة. أي المساواة أمام قوانين الدولة بغض النظر عما إذا كانت القاعدة التي بنيت عليها هذه القوانين «استبدادية تعسفية»، لا تراعي مبادئ الأخلاق أو العدالة، ساعد على ظهور هذه الصورة من صور الديمقراطية قلة عدد السكان ونظام الرق الذي عزل طبقة العبيد عن الحياة السياسية.
المرحلة الثانية (الديمقراطية القيصرية)
تحققت في نظامين
1- النظام الديكتاتوري علي يد نابليون بونابرت وفقا للدستور الذي أصدره في ديسمبر/كانون الأول 1722 (دستور السنة الثامنة).
2- النظام الذي أسسه لويس نابليون في دستور 1852. قوام هذه الديمقراطية تولي الحاكم سلطته عن طريق استفتاء شعبي يجريه أو يزيفه، ثم يسلب كل أو بعض سلطات المؤسسات البرلمانية ويضعها في يده حيث يقوم الحاكم أو القيصر في هذه الحال بإدارة أعمال الدولة بنفسه أو بإشراك أعوانه.
المرحلة الثالثة (الديمقراطية الكلاسيكية أو الغربية)
وهي الديمقراطية التي اتخذتها الأنظمة الدستورية الفرنسية التي اتخذت من الثورة الفرنسية أساسا لها، وانتشرت بعد ذلك إلى مختلف دول العالم خصوصا أوروبا الغربية. ولا تزال هي التطبيق الحقيقي لهذه الديمقراطية في العصر الحديث.
المرحلة الرابعة (الديمقراطية الشعبية)
وهي التي قامت على أفكار المذهب الماركسي وتطبيقاته العملية في الاتحاد السوفياتي سابقا وكتلته الاشتراكية عموما قبل انهيارها.
والديمقراطية كنظام سياسي تعرضت خلال تاريخها الطويل لفترات من المد والجزر. انتقد ماركس الديمقراطية التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية ووصفها بأنها ديمقراطية الطبقة البرجوازية، وأنها ديكتاتورية مقنّعة تخدم مصالح الطبقة البرجوازية الحاكمة، ودعا للقضاء عليها واستبدالها بديكتاتورية البروليتاريا أي الطبقة العاملة وهي طبقة الغالبية. وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت الديمقراطية تستعيد قواها كمذهب سياسي له احترامه ولكن النازيين والفاشيين عاجلوها بالضرب والتحطيم حتى العقد الثالث من القرن الماضي، ثم عادت تلتقط أنفاسها مرة أخرى، بعد أن أسمت نفسها «بالديمقراطية الغربية» وأصبحت شعارا لدول العالم كلها ونالت حيزا كبيرا من التقديس والتوقير، وأصبح كل عمل أو قرار أو نظام مقبولا لمجرد اقترانه بكلمة ديمقراطي
العدد 23 - السبت 28 سبتمبر 2002م الموافق 21 رجب 1423هـ