العدد 2299 - الأحد 21 ديسمبر 2008م الموافق 22 ذي الحجة 1429هـ

نجحت العملية ومات المريض

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

أنا كغيري من البسطاء يؤثر فينا المحسوس والملموس أكثر من أي شيء آخر، لذلك يراودنا العجب حين نرى متدينا يطيل سجوده ثم يأكل لحم الناس بالغيبة، ويستحل كرامتهم بالذكر السيئ.

لا يخدعنا كثيرا صاحب السبحة الذي لا تنفك شفتاه تسبحان وتشكران الله سبحانه وتعالى، ونحن نرى أولاده وعائلته يتجرعون منه الذل والهوان، ونسمع جيرانه يشكون من سوء خلقه وانفلات لسانه معهم.

أصبحت المظاهر آخر ما يفكر فيه العقلاء، لأن عقولهم تدفعهم إلى معرفة جوهر الرجال بعيدا عن (البرستيج) والشكل الذي يحبون أن يراهم الناس عليه، لقد سألني مرة أحد الأعزة عن صديق لي تقدم لطلب ابنته قائلا: هل هو ملتزم؟ سألته وما قصدك بالملتزم؟ فسألني عن لحيته وعن حضوره للمسجد وعن سماعه للغناء وقراءته للقرآن؟

تعجبت كثيرا وقلت له: نعم له هذه المظاهر الدينية، فاستغرب من قولي مظاهر دينية، وسألني عن قصدي؟ قلت له: اسأل بعد ذلك عن علاقته مع والديه وأصدقائه في العمل، وتصرفه في الأمانات، وكرمه وكرامته، وبخله وتحمله للمسئولية، ونظرته للمرأة، وكل الأمور الحياتية العملية، ثم طابقها مع المسجد واللحية وغيرها من المظاهر، حتى لا تصل إلى نتيجة أن الإيمان النظري قوي وواقع العمل به هزيل.

لقد ورد في الأثر (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم) وورد كذلك (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) وورد (لا تغرنك صلاة الرجل ولا صيامه من شاء صام ومن شاء صلى، ولكن لا دين لمن لا أمانة له)

إن أكثر ما يحز في النفس هو أن تسمح لك ظروف قاهرة أن تطلع على حياة بعض أصحاب المظاهر الدينية وأصحاب الضجيج والبكاء العالي من خوف الله في المحاضر العامة، فتكتشف واقعا صادما مريرا، ترى فيه الزبد والهراء يعلو علاقاتهم مع زوجاتهم وأولادهم ومعاملاتهم المادية وحفظهم للأمانات وتحملهم للمسؤولية.

تجاوزنا مرحلة الصغر التي كنا نعطى القمر فيها بيد والشمس باليد الأخرى بكلام حلو عسلي، وبدأنا نطابق بين القول وبين الواقع، بين الخطب الرنانة في آذاننا وبين المشاهد التي نراها بأم أعيننا.

أن تنجح العملية الدينية أو التدينية في حياة الإنسان وهو موغل في تجاوز الخطوط الحمر خارج المسجد، وبعد لحظات التهجد والتنسك، فهذه معادلة غير واضحة على صعيد الفرد، ولن تكون مقبولة وواضحة لو مارسنا كأفراد ومؤسسات أمثالها على صعيد المجتمع.

نطلب العمل حاكيا عن واقع الإنسان ومؤسسات الدولة وهيئاتها ووزاراتها ومسمياتها المختلفة، أما الشعارات والخطب وكلام الجرائد والمجلات فلن يدفع من ما يعززه الواقع العملي الخارجي يوميا في أذهاننا وعقولنا وقلوبنا.

وعلى سبيل المثال وبعيدا عن سياق الفرد، لا يمكن لأي وزارة وفي أي بلد كان أن تقنعنا أن اقتصادها لم يتأثر بالأزمة العالمية بسبب التدابير الناجحة التي اتخذتها تلك الوزارة بحسبما يصرح المسئولون فيها في المهرجانات والاحتفالات العامة، بينما يصرخ المستثمرون ويستنجدون بمنقذ يحفظ لهم ولو الربع من أصول أموالهم.

لا يمكن أن تكون التدابير ناجحة وصادقة والناس يلحظون في حياتهم غيابا مقلقا للطبقة الوسطى في مجتمعاتهم وزيادة نسبة الفقر، وتفشي الحاجة والعوز بين المستورين والمتعففين في هذا البلد أو ذاك.

لن نصغي كثيرا لمؤسسات ونقابات وهيئات حقوق الإنسان في أي بلد كان وهي تتشدق بنجاح خططها وتقدم خطواتها وكثرة منشوراتها واجتماعاتها ومهرجاناتها حتى نرى الإنسان كريما آمنا مطمئنا بالفعل على قوته ودينه ورأيه وحريته.

نعم سنقبل بذلك كخطوة في الطريق، وسنتجاوب قاصدين دفع المساعي الخيرة كي تصل مبتغاها، فنشجعها ونشد على يد من يعمل لأجلها، ونساعد على نشر ثقافتها، من دون أن تكون مظاهرها مقاييس نحكم على الأمور بسببها.

إنني لا أجد فرقا كثيرا في هذا بين بوش الذي يتحدث عن الديمقراطية والحرية وهو كالخفاش بطائراته يقصف القرى وبيوت الطين وفقراء الأرض في كل مكان، وبين مسلم يتحدث عن الحقوق والحريات في حلة قرآنية وجوقة من الأحاديث النبوية واستدعاء لكل رموز التاريخ الديني إذا رأينا الواقع بأرقامه ومعطياته خلاف ما يتفضل به من كلمات أدبية ودينية منمقة.

لا يمكن دائما التصفيق لعمليات ناجحة يموت فيها المرضى، ويكرم فيها الأطباء فوق جثث قتلاهم، قد يحدث ذلك اتفاقا ولمريض بين ألف مريض، لكن أن تكون السمة المتكررة هي الخطط الناجحة والواقع المريض، فهذا يستدعي أن تقرأ كل جهة ومؤسسة ودائرة نجاحها بعين لم يصبها العمى

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 2299 - الأحد 21 ديسمبر 2008م الموافق 22 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً