عندما وصل الحزب اليوناني المحافظ الديمقراطي الجديد إلى سدة السلطة في مارس/ آذار العام 2004، وعد بثلاثة أمور: إعادة اختراع الدولة، والقضاء على الفساد، وإطلاق إصلاح تعليمي مُلحّ. وبعد مرور أربع سنوات، بقي الوضع كما هو عليه: فالدولة لا تزال أداة لمنح الهبات والعطايا، والفساد ما زال متفشيا في القطاع الحكومي العام، بينما باءت جميع محاولات إصلاح التعليم بالفشل الذريع.
لقد مهدت هذه الأمور للاضطرابات التي التهمت اليونان منذ أيام، فتلاشت الصورة الجميلة لليونان بوصفها أرض الشواطئ المشمسة والناس الودودين، لتتكشف صورة بلد مزقته الصراعات الاجتماعية، واستهلكته الكراهية والعنف البليد.
كان السبب الظاهري المعلن وراء الاضطرابات هو مقتل شاب يبلغ من العمر خمسة عشر عاما على يد رجل شرطة - تحت ظروف لا تزال غامضة لحد الآن - قرب منطقة اكساركيا في أثينا، وهي معقل لليساريين والفوضويين المحترفين. ألقي القبض على اثنين من الضباط واتهموا بقتل الشاب. إن التدريب الضعيف، والافتقار إلى الدافعية، والرواتب المنخفضة أنتجت جهاز شرطة غير كفء وسيئ الصيت يميل منتسبوه إلى ارتكاب مثل هذه الحوادث المأساوية. ومن هذا المنظور، فإن الشرطة تشترك مع القطاع العام في المسئولية عن حالة التذمر والقلق في اليونان. ولكن الفرق الوحيد هو أنها مرخصة بحمل السلاح.
لقد أدّت الوفاة إلى قيام الطلبة، وبشكل فوري، بمظاهرات جماهيرية سلمية في الغالب، في جميع أرجاء اليونان، مظاهرات تعبر عن غضبهم لمقتل زميلهم، كما تنم عن سخطهم على النظام التعليمي المفرط في المركزية والذي يحثّ على الحفظ والاستظهار، ويخنق الابتكار والإبداع.
ولكن سرعان ما تحولت الاحتجاجات إلى اضطرابات عنيفة. فقامت مجاميع من الفوضويين المتنكرين بطقوس عربيدة من الحرق والنهب والتخريب في أثينا، وثيسالونيكي وغيرهما من المدن الكبرى في اليونان.
ولكن الغريب في أحداث اليونان - على عكس الاضطرابات التي حصلت في ضواحي باريس على سبيل المثال قبل سنوات قليلة - هو الانسحاب التام للحكومة وقوات الأمن من مشهد الاضطرابات. فتُرك المجتمع المدني لوحده، المجتمع الذي لم يكن مسلحا ليصدّ عن ممتلكاته الهجمات العنيفة التي شنتها حشود المفترسين الكواسر. وكانت ليلة الثلثاء أسوأ ليالي الاضطرابات، فقد هوجم أكثر من 400 دكان في أثينا، بعضها أحرق بالكامل، بينما نهب البعض الآخر وتعرض لتخريب كبير. كما حدثت أحداث مشابهة في سائر المدن الكبرى في اليونان.
حدث كل هذا بينما كانت قوات الأمن واقفة تتفرج على فصول المأساة. إذ كانوا يتبعون الأوامر الواضحة من السياسيين في اتخاذ «وضع دفاعي»... وهو ما كان يعني بالنتيجة أن لا يحاولوا منع طقوس التدمير.
كل من كان يراقب هذا المشهد العبثي له الحق لو استنتج أن هناك صفقة سرية عُقدت ما بين الحكومة والمضطربين مفادها: ندعك تحرق وتنهب كما يشتهي قلبك ودعنا ننعم بالمسئولية وندعي القدرة على تسيير شئون البلاد .
لقد بررت الحكومة سلبيتها بالزعم أن أية محاولة لإيقاف التخريب قد تؤدي إلى حدوث خسائر بشرية. وفي الوقت نفسه، ومن أجل تهدئة أصحاب المحلات المنهوبة الغاصبين، الذين كانوا يشاهدون بأم أعينهم آمالهم في موسم مربح في عطلة أعياد الميلاد وهي تتلاشى وتذهب أدراج الرياح، وعدت الحكومة باستخدام أموال دافعي الضرائب لتعويضهم عن الأضرار التي تسبب فيها المضطربون.
قال رئيس التحرير السابق في صحيفة «إلفثيروس تيبوس» المحافظية اليومية انتونيس باباينيديس: «إن ما نشهده اليوم هو تنازل الدولة اليونانية التام عن المسئولية. وقد حدث هذا في كل من قضية إطلاق النار على الشاب من قبل شرطي عديم الأهلية، وقضية الاضطرابات التي تلتها، على حد سواء.»
إن سلبية الحكومة في خضم هذا الانحلال أو الانهيار الذي أصاب النظام والقانون لا تدل سوى على إدارة سيئة للأزمات، أو انعدام كبير في الكفاءة - رغم أن لكلا العاملين باع طويل في تفسير تلك السلبية، ولكن تدل على أمر أعمق، فشل الحكومة المحافظة في فرض النظام و الاستقرار إنما يدل على هزيمتها في المعركة الفكرية والقدرة على تأطير الشباب.
كان هذا التنازل عن المسئولية نتيجة جزئية لتخلي الحزب الديمقراطي الجديد عن قيم الحرية، والتي يعتبر حجر الزاوية فيها سيادة القانون واحترام الملكية الخاصة. ففي قيادة رئيس الوزراء كوستاس كارامينليس، قام الحزب بتصفية جميع أصوات الليبرالية الكلاسيكية من صفوف قيادته، ورفض على نحو واضح القصص المبنية على القيم، مفضلا عليها فلسفة براغماتية غير معروفة. ولكن هذه الأخيرة أثبتت عدم تكافؤها ومضاهاتها للهجوم الإيديولوجي اليساري، الذي انتهى به المطاف وهو يحتكر سوق الأفكار في الجامعات وسائر المؤسسات التعليمية الأخرى في البلد.
لقد وصل التخبط الإيديولوجي لدى الحكومة إلى حدّ أنه ليلة التدمير الجسيم، كان النقد الوحيد الذي تمكن وزير الداخلية بروكوبس بافالوبولوس من إطلاقه ضد المجرمين اللصوص هو أنهم كانوا يتبعون «مصالحهم الشخصية». ولا شك أن آدم سميث قد تقلب في قبره لهذا التصريح!
والأسوأ من ذلك كان تصريح أدلى به باناغيوتيس ستاثيس، الناطق الرسمي باسم الشرطة الوطنية، وهو يفسر سلبية السلطات الحكومية: «العنف لا يمكن أن يجابه بالعنف.» وبهذه العبارة، ساوى بشكل فاعل بين العنف الذي تمارسه السلطات لحماية النظام الاجتماعي بالعنف الذي يمارسه هؤلاء الذين يريدون تدمير هذا النظام.
كتب سينيكا - كاتب المسرح الروماني العظيم - إن «سقوط روما قد حدث عندما توقفت فلسفة روما البراغماتية عن كونها براغماتية.» ولسوء الحظ، فإن المحافظين في اليونان لا يقرأون سينيكا - بل إنهم لا يقرأون الكثير غيره أيضا.
* صحافي في صحيفة « إيلفثروتايبا» اليونانية اليومية، وعضو في مركز دراسات الليبرالية الكلاسيكية في اثينا،
والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع مصباح الحرية
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2299 - الأحد 21 ديسمبر 2008م الموافق 22 ذي الحجة 1429هـ