الذين سبّحوا بحمد العولمية الرأسمالية المتوحشة ولم يبقوا كلمة مديح وإعجاب إلا وهالوها على أستاذ وقائد تلك الموجة الصاخبة المجنونة ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية، هؤلاء يجب أن يحنوا رؤوسهم خجلا وأسفا ويبدأوا بمراجعة النفس. فبعد انتكاسة المد القومي العربي في السبعينيات، من القرن الماضي، بحلمه الكبير لتحقيق وحدة أمة العرب ووطنه الكبير، بانحيازه لجماهير الفقراء والمهمشين، بدعوته لبناء تنمية اقتصادية ذاتية مستقلة، برفضه لأية هيمنة سياسية أو اقتصادية أو أمنية من قبل قوى الخارج، استفادت مجموعة من السياسيين الانتهازيين والاقتصاديين الجشعين والكتّاب والإعلاميين المتقلبين ذات اليمين وذات الشمال... انبرى هؤلاء للدفاع عن تلك العولمة ولتبرير وتسويق إيديولوجيتها الليبرالية الجديدة، وفي الوقت نفسه للتشهير بكل مايشتم منه، أنه قد يكون قوميا، ولذم وتجريح وتسخيف كل واحد يمت بصلة للفكر الاشتراكي الديمقراطي.
اليوم، والعالم كله يراجع الكثير من منطلقاته وممارساته، يحتاج هؤلاء العرب، الذين انساقوا بقصد أو بغير قصد وراء تلك المدرسة العولمية المتأمركة، أن يعيدوا النظر في الكثير من العناوين التي طرحوها عبر الثلاثين سنة الماضية. أول عنوان طرحوه كان رفضهم التام المحير لمشروع التواصل والتوحيد الاقتصادي العربي، وذلك باعتبار أن الانفتاح العولمي في التجارة والتكامل الاقتصادي جعل من فكرة الوحدة الاقتصادية أمرا خارج الواقع والزمن. وبالطبع فان ذلك الرفض لم يكن إلا مدخلا لرفض شعار الوحدة العربية في أية صورة ستكون اليوم وقد تبين أن أكثر الدول التي تضررت من جراء الأزمة المالية والانكماش الاقتصادي اللذين يواجههما العالم في الدول التي بنت اقتصادها بحسب متطلبات وحاجات الأسواق الخارجية العالمية بدلا عن بناء قاعدة اقتصادية متينة تتمحور حول حاجات مجتمعاتها وشعوبها، فهل كان خطأ طرح فكرة، وخاصة اقتصادية عربية تعتمد مكوناتها على أسواق وحاجات البعض وتذهب معظم الفوائض العربية في استثمارات داخل الأرض العربية بدلا عن استثمارها في البورصات والمؤسسات المالية والعقارية العولمية؟ فهل كان العرب سيمنون بخسارة المئات من المليارات من عملات العالم الرئيسية كما حدث لهم خلال الشهور القليلة الماضية؟
ثاني عنوان طرحوه كان رفضهم لأي تدخل من قبل الدولة العربية في الشئون الاقتصادية. فهل بعد مارأو، تدخلا كبيرا ومتشعبا من قبل حكومات الدول الرأسمالية لإنقاذ مؤسساتها المالية والاقتصادية، لايزالون غير مقتنعين بأن دور الدولة في تنظيم الكثير من جوانب الحياة المجتمعية يجب أن يكون كبيرا وحاسما؟ هل كان فكر العدالة الاجتماعية الذي طرحه القوميون في منتصف القرن الماضي إلا نوعا من تدخل الدولة العربية لحماية الفقراء والمهمشين وللتأكد من عدم وجود شطط في الجبهة الاقتصادية ولتوزيع الثروة المجتمعية توزيعا عادلا؟ هل تدخل الحكومات الرأسمالية في هذه الأيام يقصد منه فقط إنقاذ أصحاب رؤوس الأموال أم أنه أيضا يقصد منه حماية المواطنين، بألف شكل وشكل، وخصوصا فيما يتعلق بالعمل والسكن والحاجات الحياتية الضرورية؟
ثالث عنوان كان الاستهزاء بشعار حرية الأوطان واستقلالها. فكان أن سمي الغزو البريطاني الأميركي لبغداد تحريرا. وكان أن اعتبرت لمعاهدات التي سمحت لوجود جيوش قوى الاستعمار في معسكرات وموانئ ومطارات عبر الأرض العربية كلها اتفاقات ندّية أمنية، مثلها مثل الوجود الأميركي في بلدان حلف الناتو. وكان أن طلب البعض من قوى الخارج التدخل في كل صغيرة وكبيرة من الشئون الداخلية العربية.
هناك عناوين كثيرة أخرى. لكن المطلوب هو أن ينظر الجميع إلى النيران المشتعلة في العواصم الرأسمالية الكبرى وإلى الفواجع في كل أرض العرب والمسلمين ويتساءلون إن لم يأت الأوان في مشروع القرن العشرين العربي الوحدوي التحرري التنموي النهضوي مطلبا أساسيا في التعامل مع العولمة وكل آثارها
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 2291 - السبت 13 ديسمبر 2008م الموافق 14 ذي الحجة 1429هـ