تلاحقت الحوادث وتطورت بشكل سريع ومذهل لا يكاد يصدقه عقل حتى لأولئك الذين أوجدوا هذا التغير الكبير في الساحة السياسية العراقية، ما جعل الحيرة والذهول والتخبط هي سيدة الموقف عند من يفترض بهم أن يمسكوا بزمام الأمور سواء من قوات الغزو الأميركي أو الجهات المحسوبة على المعارضة فيما مضى وتمثل ذلك في فقدانهم اتخاذ المبادرة وعدم الإسراع في البسط والسيطرة على الوضع الاجتماعي والأمني في المدن العراقية، فضلا عن عجزهم عن التحكم بالميدان السياسي فيها، ما أدى ذلك إلى بروز حال من الفوضى واللانظام وتفشي ظاهرة الفلتان اللامسبوقة بهذه الحدة والدرجة في تاريخ العراق قديمه وحديثه، ومن أخطر تداعياتها ونتائجها هي عمليات النهب والسلب التي طالت معظم مرافق الدولة وأجهزتها وهيئاتها بل إن الاعتداءات شملت حتى مؤسسات القطاع الخاص مثل المتاجر ومحلات الصرافة والمستشفيات وما شابه ذلك.
وعلى رغم ما قيل وما سيق من أسباب ومبررات لهذه الاضطرابات المدمرة وتصويرها على أنها نتائج طبيعية لتراكمات عشرات السنين من الكبت والإرهاب، وأن المظاهر هذه تحدث حتى في أكثر الدول والمجتمعات حداثة وتطورا ويذكر في هذا الصدد الحوادث المشابهة والمماثلة التي وقعت في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة في عقد الثمانينات من القرن الميلادي وتلك الأخرى التي وقعت في مدينة لندن في بريطانيا في العقد الميلادي نفسه، ولكنني أجزم هنا وأؤكد أنها ليست عمليات عبثية واعتباطية نشأت من دون قصد وتنظيم مسبقين، بل إنها كانت مهدوفة وتم الترتيب والتخطيط لها بشكل مدروس ودقيق منذ بداية نشوء الأزمة الإعلامية والسياسية ما بين النظام البعثي والأميركيين، أي ما قبل الستة أشهر لا أقلا.
فحينما تيقن رئيس النظام المخلوع صدام حسين بعزم الحكومة الأميركية وتصميمها على الإطاحة به وإزالته مهما كانت الظروف ومهما أعطاهم من إغراءات وقدم إليهم من تنازلات، حينها بدأ هو وأعوانه وحاشيته في الاعداد لهذه المرحلة من التدمير والخراب الذي قام على أيدي بعض أبناء البلد أنفسهم.
وما يثبت صحة رأيي ويؤكده هو ذلك القرار المشهور الذي اتخذه الرئيس العراقي في حينه، أي ما قبل ثلاثة أشهر بالعفو العام والشامل عن السجناء والمعتقلين الذين لم يشمل سوى مرتكبي الجرائم والجنايات المادية والأخلاقية والتي تبلغ بعضها حد الخطورة والكثيرون منهم ذوو سجل حافل بالإجرام، وهؤلاء الآن هم من يتولون مهمة نشر البلبلة والغوغاء والقيام بأعمال السطو والسرقات، بالإضافة طبعا إلى أزلام وأفراد الحكم البائد وخصوصا من يُسمون بفدائيي صدام الذين أوكلت إليهم هذه المهمة وغيرها.
وكشاهد آخر يوثق هذا الرأي ويدعمه وهو ما نراه من انحصار هذه التصرفات الغوغائية واقتصارها على المدن الرئيسية (بغداد والبصرة والموصل وكركوك) واقتصارها عليها حيث توجد الوزارات الحكومية والمقرات والدوائر الرئيسية لفروع وأجهزة الدولة المختلفة وما فيها من وثائق وأدلة تدين أعضاء النظام وكوادره الأساسيين فيما لو وصلت إلى أيدي السلطات الجديدة، لكنها في حال إعدامها وإتلافها كما حصل فعلا من خلال إشعال الحرائق الضخمة في هذه المباني الرسمية يقطع الطريق أمام إدانة أولئك المسئولين وإثبات جرائمهم من خلال هذه البراهين الموثقة.
بالإضافة إلى أن الكثير من مظاهر التدمير والتخريب في المدارس والجامعات والمستشفيات ودور العبادة من المساجد والحسينيات وما إلى ذلك تنم عن أن الهدف المقصود ليس مجرد السرقة والسلب، بل تكشف حجم المؤامرة الكبيرة التي تم إعدادها بشكل محكم والتي تتمثل في تحقيق هدف صدام، الذي أعلنه بنفسه منذ مجيئه للسلطة وصرح به جهارا، بأنه لن يتنازل عن الحكم أو يسلّم العراق إلى غيره إلا وهو عبارة عن أرض جرداء محروقة! فالقضية إذا ليست أكثر من تشفٍّ وانتقام من أهل العراق جميعهم لأنهم لم يقبلوا بصدام ولم يدافعوا عنه لا أكثر من ذلك!
بعد وضوح الصورة ـ كما أعتقد - ينبغي المبادرة والعجلة من أبناء الرافدين أنفسهم لأنهم الخاسر الأكبر قبل غيرهم وأعني الغزاة المحتلين الذين قدموا في الأساس لاستغلال خير العراق وثرواته ولا يهمهم مدى الخراب وفداحته في البنية الأساسية التحتية وهو يجري أمام ناظرهم.
وهنا أتوجه بالخطاب وبصوت عال إلى جميع الأطراف المعارضة العراقية التي عوّل البعض منها كثيرا على هذا التحرير الأميركي ووثقت به، أن تمارس الضغط وبشتى الطرق والوسائل حتى ولو بالتهديد بتغيير الموقف وحمل السلاح في وجه الاحتلال الإنجلو-أميركي وذلك من أجل قبوله بإشراك الشخصيات والزعامات العراقية المعارضة منها أو الموجودة في الداخل العراقي ولو من أجل ترتيب الأوضاع وضبط الساحة وإشاعة أجواء الأمن والنظام لا أكثر. ولا يتحقق ذلك في أسرع وقت ممكن إلا بالابتعاد عن المغانم والمكاسب السياسية الآنية والتركيز على موضوع معالجة الموقف المضطرب ميدانيا أثناء المداولات والمفاوضات مع المسئولين في الإدارة الأميركية
العدد 229 - الثلثاء 22 أبريل 2003م الموافق 19 صفر 1424هـ