أفصحت بكين عن تراجع واضح في وارداتها وصادراتها خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، ما يثبت أن آثار الأزمة الاقتصادية العالمية بدأت تلقي بظلالها على الاقتصاد الصيني. فقد انخفضت الصادرات الصينية بنسبة 2.2 في المئة في نوفمبر 2008 مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، وهو انخفاض لم تشهده الصادرات الصينية منذ العام 1999. في الوقت ذاته، تراجعت الواردات بنسبة 17.9 في المئة. وانعكس كل ذلك بشكل مباشر على فائض الميزان التجاري الصيني الذي ارتفع الى رقم قياسي هو 40 مليار دولار.
هناك عدة أسباب أدت إلى هذا التراجع في الصادرات والواردات. فعلى مستوى الصادرات، وكما يقول الخبير الاقتصادي بمركز استشارات في بكين جين ما، أن ذلك يعود، أساسا، للقيود التي «فرضت على منح القروض في الاقتصادات الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ما يعوق تمويل عمليات الاستيراد من الصين». أما بالنسبة إلى الوردات، فأهم سبب يكمن وراءها، هو التراجع الهائل الذي أصاب أسعار النفط، والتي يتوقع لها أن تنخفض أيضا».
لا ينبغي أن يقودنا ذلك إلى استنتاج مفاده «أن الأزمة المالية ستطيح بالبناء الاقتصادي الصيني المتين الذي أشادته بكين». فعلينا أن نقابل هذه الأرقام بأخرى تشير إلى خلاف ذلك. فوفقا لتقرير بثته وكالة رويترز - تومسون، سوف «تتسارع خطوات الصين الإبداعية كي تزيح اليابان من طريقها وتحتل مقعدها في شهادات براءات الاختراع (Patents) بحلول العام 2011، والولايات المتحدة بحلول العام 2012، من خلال تحولها من وسائل الزراعة والصناعة التقليدية والتركيز على الإبداع، وخصوصا في قطاعات مثل الهندسة الكيميائية».
مثل هذا التحول النوعي في خطط الصين التنموية الذي يحدث في وقت يمر به العالم بأزمة اقتصادية خانقة، إن لم تكن قاتلة تهدد أعتى الاقتصادات وأكثرها رسوخا مثل الاقتصاد الأميركي أو الياباني بالانهيار، يعبر عن تماسك الاقتصاد الصيني من جهة، وقدرته على الخروج من الأزمة، عندما تجتاحه، وبأقل الخسائر، ويعزز من احتمال تفوقه على الاقتصادات الأخرى.
الاقتصاد الصيني اليوم، شبيه إلى حد بعيد، مع مراعاة الفوارق الناجمة من الاختلاف الزمني، بالاقتصاد الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، الذي كان أكثر اقتصادات العالم رسوخا وازدهارا مقارنة مع الاقتصادات الأخرى، بما فيها البلدان المنتصرة في تلك الحرب، مثل بريطانيا وفرنسا. وكما يبدو فإن الصين تهيئ نفسها، ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على المستوى السياسي أيضا. ويمكن تلمس ذلك من ثلاث خطوات أقدمت عليها خلال الربع الأخير من العام 2008.
الأولى، تعهدها، في الكلمة التي ألقاها في افتتاح الاجتماع الوزاري الاقتصادي الصيني - الأميركي الخامس في بكين نائب رئيس الوزراء الصيني وانج كيشان، بأن تبذل «جهودا حثيثة مشتركة لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية وتطويق أي خطر محتمل يمكن أن ينجم عن دخول الاقتصاد الدولي في فترة من الركود، (مشددا على) ضرورة الإسراع والحزم في التصدي للأزمة الاقتصادية العالمية ومعالجة ذيولها، وخصوصا من أجل الحد من آثارها على الدول النامية، (مناشدا الولايات المتحدة) أن تتخذ الإجراءات الضرورية لجلب الاستقرار للاقتصاد وللأسواق المالية، بالإضافة إلى ضمان سلامة الأرصدة والاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة».
الثانية، هو تجاوز الصين لكل من بريطانيا واليابان كدائن للولايات المتحدة، لتصبح اكبر دائنيها وفقا لأرقام واردة في تقرير أصدرته وزارة الخزانة الاميركية بنهاية سبتمبر/ أيلول 2008. وكما جاء في التقرير، فإن «المستثمرين الصينيين، بما في ذلك الوكالات الرسمية، اصبحوا يمتلكون سندات قيمتها خمس مئة وخمسة وثمانين مليار دولار من التي اصدرتها الحكومة الاميركية لتغطية ديونها». وبذلك تسبق الصين اليابان لاول مرة في مديونيتها للولايات المتحدة. وتبقى بريطانيا ثالث دائن للولايات المتحدة بـ338 مليار دولار بعدما كان دينها 308 مليارات دولار في اغسطس/ آب 2008.
أما الثالثة، فهو ما ورد في خطاب الرئيس الصيني هو جنتاو، أمام المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي في نهاية شهر نوفمبر 2008، من تحذير من أن الأزمة العالمية تمثل تهديدا خاصا للصين، التي باتت «تحتاج إلى إجراء إصلاح أسرع لنمط نموها الاقتصادي، لتحقيق التنمية المستدامة، وإن المنافسة العالمية ازدادت شراستها عن قبل، وبدأت سياسة الحمائية تزداد في مجالي الاستثمار والتجارة»
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2289 - الخميس 11 ديسمبر 2008م الموافق 12 ذي الحجة 1429هـ