نتائج الانتخابات الداخلية في تكتل «الليكود» تشير إلى عودة التطرف إلى النمو بعد انكفاء نسبي محدود طغى في فترة معينة على قيادة الحزب حين شهد انقسامات داخلية بين تيار أرييل شارون وتيار بنيامين نتنياهو. الانقسامات آنذاك لم تكن على الأهداف وإنما على تكتيكات التفاوض مع الجانب الفلسطيني. شارون اختار سياسة التفاوض من طريق القوة وفرض الشروط والتلاعب على الانقسام الفلسطيني والتفرقة بين الضفة الغربية وقطاع غزة. نتنياهو اتجه نحو التصعيد المطلق ضد «اتفاقات أوسلو» معتمدا على سياسة المقاطعة والضغط على الجانب الفلسطيني وإرغامه على البحث عن «وطن بديل» خارج الأراضي المحتلة.
أدى الاختلاف في وجهات النظر بين المتطرفين في «الليكود» إلى خروج شارون من حزبه ودعوته إلى تشكيل قوة سياسية بديلة تجمع الأضداد بين حزب «العمل» و«الليكود» تكون وظيفتها تأسيس خط ثالث يلبي حاجات «إسرائيل» المرحلية التي تقضي بعزل سلطة ياسر عرفات وإضعافها والانسحاب من غزة والتفرغ للاستيطان في الضفة. ونجح الخط الثالث في تشكيل قوة مؤقتة ضمت إلى صفوفها بعض الوجوه التاريخية من «العمل» إلى جانب شخصيات تقليدية كانت منضوية في «الليكود».
الحل الشاروني للمأزق الإسرائيلي التائه بني التفاوض والاحتلال ساهم في إطلاق حزب «كاديما» الذي اقتطع نسبة كبيرة من شعبية «العمل» مقابل نسبة محدودة من شعبية «الليكود» ما أدى لاحقا إلى إضعاف قوة «العمل» وتقوية «الليكود» على رغم فوزه بالكتلة النيابية الأكبر في الكنيست. فالانتخابات ترافقت مع دخول شارون في غيبوبة صحية وجاءت بعد الانسحاب من طرف واحد في غزة وانتهت بصعود إيهود أولمرت إلى زعامة الحزب الجديد.
شارون الآن يرقد في غرفة العناية الفائقة، وأولمرت يستعد لمغادرة المسرح السياسي حاملا معه آثار الخيبة والفشل والضعف والرشوة، ووزيرة الخارجية تسيبي لفني التي فازت بالرئاسة وفشلت في تشكيل حكومة بديلة غير واثقة من إمكان نجاح حزبها في انتزاع الحصة الأولى في مقاعد الكنيست في الانتخابات التي ستعقد في فبراير/ شباط المقبل.
الخاسر الأكبر في تعقيدات اللعبة حزب «العمل». فهذا الحزب المؤسس الذي لعب دورا مركزيا في تشكيل الدولة وتسويق «إسرائيل» دوليا دخل مرحلة الاضمحلال التدريجي ويرجح أن يبدأ مرحلة الغيبوبة التاريخية بعد الانتخابات المقبلة. المؤشرات والاستطلاعات ترجح هذا الاحتمال إذ تدل النسب المئوية على تراجعه أمام «الليكود» المتقدم في شعبيته و«كاديما» المتراوح في مكانه مع اتجاه إلى تناقص عدد مقاعده قياسا بالانتخابات السابقة.
كل الاستطلاعات تشير إلى بدء تشكل خريطة حزبية مغايرة للصورة السابقة. «كاديما» الأول سينتقل إلى الموقع الثاني و«الليكود» الثالث سيصعد إلى المرتبة الأولى، و«العمل» الثاني سيتراجع إلى الدرجة الثالثة وربما الرابعة أو الخامسة تاركا مواقعه إلى أحزاب متأرجحة آيديولوجيا بين اليمين واليسار والتطرف القومي والديني. هذا التحول السريع الذي طرأ على الخريطة الحزبية في فترة تقل عن خمس سنوات يشير إلى نوع من عدم الاستقرار في طبيعة الكيان العبري والتخبط الذي تعاني منه دولة «إسرائيل» في إطار متغيرات أخذت تعصف على المنطقة دوليا وإقليميا. ففي أقل من خمس سنوات انشطر «الليكود» على تيارين، وتأسس حزب جديد أخذ يتعرض للتآكل السريع بعد دخول مؤسسه غرفة العناية، والحزب المؤسس الذي قاد حكومات «إسرائيل» منفردا من العام 1947 إلى العام 1974 يواجه لحظات من التفكك الذي يهدد وجوده بالانقراض.
رفض التكيف
المأزق الحزبي الذي يتمظهر الآن في الخريطة السياسية للدولة العبرية يشير إلى متغيرات متخالفة آيديولوجيا في التعامل مع المهمات والتحديات التي تواجهها السلطة في السنوات المقبلة وتحديدا في فترة تبدو فيها الولايات المتحدة غير قادرة على لعب دورها التقليدي في دائرة «الشرق الأوسط». وهذا المأزق الذي بدأ يزعزع الكثير من القناعات الثابتة أخذ يولد تيارات متطرفة تعبر عن نزوح نحو المغامرة وربما الانتحار. وفي حال استمر نمو هذه التيارات المتطرفة التي هي في النهاية تعكس حالات التوتر والخوف وعدم القدرة على التكيف مع المتغيرات ورفض الانسجام مع المنطقة المحيطة بالكيان فإن المأزق يرجح أن يكبر نطاقه ويتدحرج من القمة إلى القاع جاذبا معه الكثير من العناصر القابلة للاشتعال.
هذه الظاهرة السياسية في الرد على المأزق الوجودي تعتبر فعلا صهيونية بامتياز كونها لا تتجاوب مع المتغيرات والمتحولات والمهمات والتحديات من خلال التكيف أو الانسجام أو القراءة العقلانية لمكونات الجغرافيا والتاريخ بل ترد بالمزيد من التطرف والانغلاق والتهرب من المسئولية والذهاب بعيدا إلى دائرة الانكفاء عن المحيط. والمبالغة في التطرف تعكس في تضاعيفها الايديولوجية سياسة تفضل تكرار تجارب المغامرة حتى لو اندفعت الدولة كلها نحو الانتحار. فالانتحار الايديولوجي يشبه كثيرا تلك الظاهرة اللاعقلانية التي تفضل الموت على رؤية المتغيرات التي تطرأ عادة على مسرح التاريخ. في ألمانيا انتحر الآف من النازيين تقليدا لزعيمهم ادولف هتلر بعد خسارة الحرب العالمية الثانية. والأمر نفسه حصل في اليابان بعد توقيع طوكيو وثيقة الاستسلام. الانتحار هو الرد المبالغ في تطرفه على رفض القبول بالأمر الواقع والامتناع عن الاعتراف بالحقائق الميدانية. وهذه الحالات الألمانية واليابانية تكررت مرارا في المشاهد السياسية في دائرة «الشرق الأوسط» إذ هناك الكثير من الأمثلة التي تشير إلى الامتناع الايديولوجي عن تقبل الأمر الواقع والذهاب نحو أقصى التطرف للإشارة إلى التحدي وعدم تصديق المتغيرات التاريخية.
ما حصل أمس الأول في الانتخابات الداخلية الحزبية لاختيار المترشحين في قائمة تكتل «الليكود» لدورة الكنيست المقبلة في فبراير 2009 تعطي صورة مصغرة (عينة جزئية) عن مأزق كياني كبير. فالقاعدة الحزبية اختارت الأكثر تطرفا وانتخبت إلى رأس لائحة الأوائل العشرة تلك القوى السياسية التي تبالغ في نزوعها الايديولوجي نحو رفض التكيف مع المتغيرات وعدم الاعتراف بالواقع ومعاندة التاريخ ورفض الانسجام مع شروط المتحولات.
انتخابات «الليكود» الحزبية أعطت ثقتها للقوة المتطرفة والصاعدة داخليا على حساب تيار نتنياهو الذي قاد بدوره قبل أربع سنوات حملة متطرفة مضادة للمتطرف شارون. حتى أولمرت أبدى انزعاجه من تلك النتيجة، كذلك لفني التي تبدو زعامتها المؤقتة مهددة بالانهيار في حال تراجع حزبها إلى الموقع الثاني ولم ينجح حليفها «العمالي» الاحتفاظ بمواقعه السابقة.
هناك خريطة حزبية جديدة بدأت ترتسم معالمها السياسية حتى قبل إجراء الانتخابات في فبراير المقبل. فالنتائج تؤشر إلى نزوح الجمهور الإسرائيلي إلى الموقع الأكثر تطرفا والتعامل بعناد مع مستجدات أخذت تضغط ميدانيا على الدولة العبرية سواء على مستوى التفاوض والقبول بالأمر الواقع أو على صعيد التأقلم مع محيط جغرافي والتكيف مع إطار تاريخي من الصعب تجاهله أو القفز عنه نحو المغامرة في المجهول والمقامرة بالمستقبل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2288 - الأربعاء 10 ديسمبر 2008م الموافق 11 ذي الحجة 1429هـ