الأحداث الجسام التي أفرزتها العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين لاتزال تلبد سماء المنطقة معززة برغبة جامحة من قوى دولية وإقليمية ونظم سياسية في خلق شرق أوسط مكبل بتكلات طائفية.
«شيعة المنطقة» لم يكن مصطلحا معهودا في الجغرافيا السياسية، ولكنه أصبح الآن أمرا واقعا مفروضا لا بل من الخطأ عدم التسليم به.
المليارات التي صرفت على فرز مواطني المنطقة على أسس فئوية وعرقية ومذهبية باتت تؤتي أكلها - أو لنقل شرورها - ولكنها كشفت عن خطأ جسيم ارتكبته النظم السياسية في اصطناع حواجز نفسية كبيرة بينها وبين شعوبها.
حان الوقت للنظر إلى شيعة المنطقة ليس على أنهم قوة كبرى تؤثر بلا ريب في رسم مستقبل هذه المنطقة الملتهبة من العالم، وتسهم في رسم خياراتها السياسية وإن كان في ذلك نصيب كبير من الصحة والواقعية، بل يجب التعامل مع الشيعة على أنهم مواطنون كاملي الحقوق.
الحل في دمج الشيعة في الحكم في دول المنطقة بصفتهم مواطنين ذوي إسهامات غنية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس لأي أمر آخر.
ليس للشيعة استحقاق خاص عن غيرهم من المواطنين، ولكن شيعة المنطقة بحاجة لمن يدرك هواجزهم، ويتعامل معهم بنحو مختلف، وحكومات المنطقة مدعوة اليوم للتكفير عن خطاياها من خلال الكف عن السياسات السابقة التي أنتجت شرورا متصاعدة وخلقت منطقة متأزمة.
لا ينكر ذو عقل أن الضغط على هذا المكون المهم من المكونات الديموغرافية في نسيج دول هذه المنطقة، سيعزز نزعة التطرف لدى بعض الشيعة في التعاطف مع الامتدادات الإقليمية.
من الخطأ الفادح والوخيم أن يتم النظر إلى الشيعة بأنهم امتداد لأهم قوتين في المنطقة «بغداد وطهران»، فهذه الطريقة ستفضي إلى اهتزاز كبير في الخريطة الأمنية، وتضر بمصالحها الإستراتيجية، وفي المقابل فإن ثمة خطأ أيضا يراود بعض صناع القرار في الخليج بأن الشيعة لايزالون مواطنون من الدرجة الثالثة، فهذه النظرة متناقضة وحقيقة الوضع الجديد الذي كان للقوى الدولية الفضل في وجوده.
في الضفة الأخرى لم يعد مقبولا أن يتشبث بعض شيعة المنطقة بمشروع الكيان الطائفي، فحتى لو كان ذلك مبررا لعقود من الزمن لها ما يشفع لها بأن هذه النظرة جاءت ردة فعل لارتدادات خطيرة وسلوك بشع من التعامل.
يجب أن يكون رهان شيعة المنطقة اليوم وأكثر من أي وقت مضى على المطالبة بالعيش في ظل المواطنة الدستورية التي تكفل لهم الشراكة في الحم بيافطتهم الوطنية وليس من أجل سواد عيون الآخرين.
ثمة حاجة كبرى للتصحيح في الخيارات الشيعية أيضا، وليس في ذلك عيب، ولا يجب أن يتصرف الشيعة على أنهم قوة مضطهدة وإنما على أساس أنهم مواطنون يشكلون قاعدة عريضة لهم الحق المشروع في أن ينعموا بخيرات بلدانهم.
الأسطوانة المشروحة بوصم كل من يطالب بحقه من شيعة المنطقة بأنه عميل لإيران (الصفوية) يجب أن تتوقف، لأنه ليس من الرشد زرع القنابل الطائفية في الأرض الواحدة التي يتقاسم العيش فيها الجميع، وليس من الحكمة أيضا خلق العداء مع جارة قوية يفترض أن تربطنا بها كحكومات مصالح إستراتيجية ليس من بينها تقاسم المسئولية في الحفاظ على أمن الخليج.
من الواجب أن نعي حجم التغييرات الهائلة التي طرأت في المنطقة، والقوى الدولية الحليفة مع الحكومات تريد في المقابل أن تأمن قدرا كبيرا من الاستقرار الذي لا يشاكس مصالحها الحيوية وبعيدة الأمل.
أهم درس عظيم حملته رياح التغيير في واشنطن الذي أوجدته الانتخابات الأميركية هو ضرورة تصالح المجتمعات مع نفسها، ونبذ ثقافة الاضطهاد والتمييز، والبدء في تعالي السواعد في سبيل تثبيت الانسجام بوصفه صمام الأمان الأول، فالرهان هو على تماسك الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات بقدرٍٍ عالٍ من النجاح.
وخلاصة القول إن حكومات المنطقة وشيعة المنطقة يجب عليهما أن يديرا ظهرهما للماضي، ويشرعان في التأسيس إلى مصالحة تاريخية تقوم على عقد اجتماعي يكفل للأنظمة أمنها واستقرارها ويكفل للشيعة حقهم الكامل في المشاركة بل الشراكة، ولن يتحقق ذلك العرس بالأماني وحدها، لأن ترسيخ الاستقرار طويل الأمد ونسيان الماضي بحاجة لثمن.
التعددية الثقافية والمذهبية ليست ترفا وإنما أضحت حاجة حيوية شأنها كالماء والخضار التي تؤلف سياجا جميلا، فالاحتباس الحراري المذهبي وصل مداه في هذه البقعة الجغرافية. وأصبحت المنطقة بعد ترسانة التجاذبات الطائفية على حافة الهاوية.
حان الوقت لأن تدرك حكومات المنطقة الحاجة إلى تأسيس شرق أوسط خالٍ من التكتلات الطائفية. إنها حاجة ملحة للأنظمة أكثر منها للشعوب
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2286 - الإثنين 08 ديسمبر 2008م الموافق 09 ذي الحجة 1429هـ