هناك أكثر من ملف مطروح على طاولة التفاوض العربي - الأميركي في عهد الرئيس باراك أوباما. فالملفات متنوعة الأوجه باعتبار أن عهد الرئيس الحالي جورج بوش تعامل مع بعضها بخفة وجمد بعضها الآخر وأثار ملفات ساهمت في تقويض دولة عربية وأدت إلى فتح قنوات هددت أمن المنطقة وطرحت تحديات تزعزع الاستقرار وتنشر الفوضى.
سياسة بوش كانت الأسوأ في التعامل مع القضايا العربية وما يتفرع عنها من ملفات تعطل التنمية وتثير عصبيات وتستنزف ثروات وتقطع التواصل وجسور الثقة. فهذه السياسة الأميركية التي اعتمدت شعارات أيديولوجية واستخدمت القوة لتحقيقها أدت إلى نتائج مدمرة رفعت من درجة التوتر الإقليمي والتجاذب المذهبي وغذت عصبيات وأنعشت أقليات وأفرزت مواد قابلة للاحتراق في دائرة جغرافية حساسة في موقعها ومواردها. إدارة الرئيس بوش لاشك تتحمل مسئولية سياسية ومعنوية وأخلاقية في طرح أوراق خطيرة من خلال رؤية أيديولوجية محكومة بمظلة نظرية تقرأ المنطقة العربية من زاوية سلبية. ومثل هذه الأوراق التي ساهمت واشنطن في إنتاجها أو أثارتها تحتاج إلى وقت لمعالجتها حتى لو غادر بوش البيت الأبيض وجاءت إدارة تخالف رؤيته ونظرته.
الرئيس البديل يستطيع وقف سياسة بوش وقطع الطريق عليها ولكنه لا يمتلك الإمكانات لمنع تفاعلاتها وتداعياتها قبل أو بعد أن تغادر القوات الأميركية العراق خلال 16 أو 36 شهرا. ما حصل ميدانيا يطرح فعلا سؤال: هل تستقر العلاقات الأميركية - العربية بعد خروج بوش من البيت الأبيض أم تتواصل سياسة التقويض في العهد الجديد؟ الترجيحات المبدئية تشير إلى احتمال الاستقرار بسبب ظهور أزمات طارئة عطلت على واشنطن إمكانات التصعيد الذي عرف حدوده القصوى بعد حصول هجمات سبتمبر/ أيلول 2001. فالهجمات التي أعطت ذريعة لتيار «المحافظين الجدد» للبدء في تنفيذ استراتيجية التقويض فقدت مع الأيام زخمها السياسي بعد أن وصلت إلى طريق مسدود يصعب تجاوزه من دون دفع كلفة مالية لا تستطيع خزانة فارغة تغطية نفقاته.
هذه الحال السلبية ربما تجدد طرح السؤال عن الطرف الخاسر في المعادلة والطرف الرابح، ولكن السؤال عن الخاسر والرابح يفتح الباب لطرح سؤال آخر عن إمكانات مواصلة واشنطن في العهد الجديد تلك السياسة الهجومية التي قادتها إدارة بوش ضد العرب والمسلمين.
أميركا استراتيجيا فشلت في تحقيق أهدافها الكبرى ولكنها نجحت تكتيكا في إثارة ملفات مخيفة يمكن أن تتطور سلبا في حال لم تسارع الدول العربية إلى احتواء انفعالاتها وتداعياتها. الملفات كانت موجودة في تضاعيف المجتمعات العربية والمسلمة ولكنها كانت ساكنة في إطار توزع الخرائط السياسية باعتبار أن الظروف الموضوعية السابقة لم تكن تساعد على تحريكها وتشجيعها. الآن وبعد مرور سبع سنوات على استراتيجية التقويض نجحت واشنطن جزئيا في سياسة «نبش القبور» وإثارة عصبيات كامنة ما طرح أمام الدول العربية تحديات تتطلب منها اعتماد خطة احتواء للحد من العوارض السلبية التي يمكن أن تظهر في تضاريس المجتمعات العربية والمسلمة.
احتواء هجمات سبتمبر
خطة الاحتواء لا يمكن أن تكون ناجحة إذا لم تطرح بشفافية على طاولة التفاوض العربي - الأميركي في عهد أوباما. وأهم تلك الملفات إنهاء حال الاستنفار (العداء) التي أعقبت هجمات سبتمبر وأعطت ذريعة للهجوم على العرب والمسلمين تحت مسميات مختلفة. واحتواء تبعات «هجمات سبتمبر» يشترط بداية سحب تلك الخرائط السياسية التي أخذت إدارة بوش تتداولها سرا وعلنا في تعاملها الاستراتيجي مع المنطقة العربية الإسلامية.
تلك الخرائط البديلة التي تتصور الدول العربية في أشكال جغرافية مغايرة لوضعها الحالي تعتبر نقطة مهمة في جدول التفاوض لأن الإصرار عليها يعني الاستمرار في سياسة التفكيك وإعادة التركيب ما سيؤدي إلى مواصلة استراتيجية التقويض اعتمادا على ملفات تثير الحروب الأهلية وتمنع على القوى الإقليمية إمكانات الاستقرار والتفاهم.
إنهاء الجانب العسكري من حروب بوش لا يكفي للسيطرة على الملفات التي طرحتها واشنطن خلال الفترة الماضية. فالجانب العسكري مهم لأنه يوقف الهجوم الاستراتيجي ولكنه ليس كافيا إذا لم يستتبع بالجانب السياسي وما يتضمنه من أوراق سلبية ترفع من درجات التوتر الأهلي ما يهدد الاستقرار ويزعزع الأمن ويشجع العصبيات على التناحر والاقتتال.
العبث بخرائط المنطقة وتعديلها سواء على صعيد تغيير الهيئة الجغرافية أو على صعيد تغيير الهيئة الديموغرافية (السكانية) في إطار الدولة تشكل زاوية مهمة في استراتيجية بوش التقويضية. لذلك لابد أن تتعاون دول الجامعة العربية على تعطيل هذا الجانب السياسي من الهجوم من خلال التفاوض مع الإدارة الجديدة حتى لا تتحول الملفات إلى أوراق ضغط تستخدمها واشنطن عند الحاجة بقصد الابتزاز والتخويف من مخاطر إقليمية وأهلية مفتعلة.
احتواء أوراق التقويض تعتبر خطوة سياسية لابد من انجازها في بداية عهد أوباما حتى تستطيع إدارة واشنطن التخلص من مخلفات استراتيجية بوش التي تأسست أيديولوجيا على انفعالات وتشنجات فرضتها هجمات سبتمبر. والتخلص من مخلفات تلك الفترة يمكن أن يفتح باب التفاوض على ملفات كثيرة تعرضت للاستخفاف والإهمال والتجميد بذريعة أنها نتاج ما أسمته واشنطن «التخلف» و «الاستبداد» وثقافة تشجع على العنف والإرهاب.
الملفات المطروحة على طاولة التفاوض العربي - الأميركي كثيرة ولكنها تحتاج إلى إعادة ترتيب حتى يمكن التفرغ إليها والسيطرة عليها ورقة بعد أخرى. وأولى الأوراق هي إنهاء ملف «هجمات سبتمبر» وتبعاته وتداعياته. وثاني الأوراق سحب ملف الخرائط الجديدة للشرق الأوسط من التداول السياسي أو الميداني. وثالث الأوراق البدء في معالجة كارثة العراق وما أثارته من أزمات عنقودية تتركز على إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية والأقوامية والمناطقية.
كل هذه الأوراق الساخنة تقع مسئوليتها على إدارة بوش باعتبارها شكلت قاعدة انطلاق لتبرير استراتيجية التقويض، وهي في مجملها تؤسس ذاك الإطار التفاوضي بين الدول العربية والولايات المتحدة في عهد أوباما. فالحوار الثنائي الذي يمكن أن ينفتح على موضوعات مهمة (فلسطين والسلام الإقليمي) لابد أن يبدأ من خطوة إنهاء ملف «هجمات سبتمبر» وإسقاط ادعاءات واشنطن بأن السياسة العربية والثقافة الإسلامية وأنظمة الاستبداد شجعت عليها وبررت حصولها. ولا شك أن نجاح خطوة الاحتواء هذه تساعد على توضيح العلاقات المتأزمة وتفتح الباب أمام موجات من الحوار لمعالجة ملفات متنوعة الأوجه تعاقبت عليها سلسلة أطوار زمنية (فلسطين ومحيطها) من دون نتيجة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2286 - الإثنين 08 ديسمبر 2008م الموافق 09 ذي الحجة 1429هـ