في خضم الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي وما نجم عنها من تداعيات أدت إلى إعلان إفلاس دول مثل أيسلندا، ومؤسسات ضخمة من مستوى أي آي جي (AIG)، طغت أنباء سلبيات الأزمة، من دون أن نقرأ أو نرى أخبارا عن جهات وقوى استفادت منها. وجدلية القوانين الاقتصادية تقول إنه في كل عملية أو ظاهرة اقتصادية، وأمام كل خسارة وخاسرين، لابد أن يكون هناك ربح ورابحين.
حالة استثنائية التقطتها محررة في موقع «سويس إنفو» نيكول ديلا بييترا، إذ أشارت إلى المافيا بوصفها الطرف المستفيد من هذه الأزمة، وأنها الجهة الوحيدة التي لم يضربها «تسونامي» الأزمة.
أجرت نيكول مقابلة مطولة مع المدَّعي العام الإيطالي لمكافحة المافيا أغوستينو أباتي. فالبعض من أمثال أباتي يعتقد أن المافيا، وبسبب «ظروف العولمة وغياب بعض متطلبات الرقابة من قبل الدولة» نجحت في تحويل بعض جوانب الأزمة لصالحها.
من أجل فهم قدرات «المافيا» وإمكاناتها، لابد لنا من العودة قليلا إلى الوراء والتعرف على ظروف نشأة المافيا، فالبعض يرجعها إلى نهاية القرن التاسع عشر، لكن هناك من يرجعها إلى مرحلة أبكر من ذلك بكثير، ويؤرخ لنشوء المافيا بالقرن الثالث عشر مع غزو الفرنسيين لأراضي سيسيلي الإيطالية في سنة 1282، بعد فساد نظام الحكم في فرنسا حيث تكونت في الجزيرة منظمة سرية لمكافحة الغزاة كان شعارها «موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا» فجاءت كلمة مافيا من أول حرف لكل كلمة في هذا الشعار وصارت ترمز إلى هذه المنظمة.
هذه البداية شكلت قاعدة صلبة نجحت المافيا في تطويرها لاحقا كي تنتقل من القطرية (إيطاليا فقط) إلى العالمية، حيث نجح المهاجرون الأوروبيون إلى الولايات المتحدة، وشرعوا بعدها في تأسيس منظمة تتمتع بنفود واسع في العديد من المؤسسات التجارية والصناعية استخدمتها بشكل فعَّال في تمويه أنشطتها الأخرى من غسيل أموال والتجارة في المواد المحرمة. على نحو موازٍ، نجحت المافيا في تأسيس أفرع لها في دول أوروبية أخرى مثل روسيا. ولابد لنا من الإشارة إلى العلاقة التي باتت تربط بين المافيا وبعض المؤسسات اليهودية على يد اليهودي «ماير لانسكي» في العام 1931.
كذلك لم تكن منطقة الخليج العربي بمنأى عن انشطة تلك المنظمة، وفي العام 2006 تم إلقاء القبض على زعيم المافيا الروسية من قبل شرطة دبي. وكما يقول عبدالخالق عبدالله جلبت المافيا معها «ظواهر اجتماعية واجرامية منفرة كالدعارة والاتجار بالبشر وغسل الاموال والمخدرات. ولا يقتصر الأمر على هذه الآفات الاجرامية بل إن المافيا لا تنتعش الا باختراقها لأجهزة الأمن ونشر الفساد الاداري والمالي. ومن الصعب القضاء على المافيا عندما تخترق المؤسسات الأمنية والمالية والترفيهية حيث تنتعش اكثر من أي مكان آخر».
بعد هذه المقدمة السريعة بشأن نشأة المافيا نعود مرة أخرى لتشخيص نجاحها في الاستفادة من الأزمة المالية الحالية من خلال ما ورد في مقابلة أباتي، إذ نجده يوضح ذلك صراحة في قدرة المافيا على توفير التغطية القانونية من عملياتها المشبوهة متخذا من سويسرا نموذجا بالقول: «تقليديا، لعبت سويسرا دائما دورا أساسيا لسببين اثنين. أولا، لأنها تسمح للجريمة المنظمة بالوصول إلى اتصالات لاحقة مع مناطق أخرى في العالم، بعيدا عن الرقابة القضائية الإيطالية. وثانيا، لإعادة تبييض وإخفاء وإعادة استثمار رؤوس أموالها فيها بالخصوص... وللأسف، اتسع نطاق هذه الجاذبية منذ بضعة أعوام. فقد أصبحت سويسرا مكان إقامة وتطوير أنشطة إجرامية مستقلة من طرف بعض العصابات. ومن وجهة نظر (جينية)، فإن حضور المافيا، يتطلب إجباريا - وهذا أمر يتمُّ أحيانا بسهولة شديدة - إيجاد ظروف ملائمة لأنشطتها، عبر التسلل مسبقا إلى النسيج الاجتماعي والاقتصادي المحلي، الذي تريد اختراقه... هذا المسار يبدأ باستثمارات في أنشطة تجارية قانونية تابعة لأفراد آخرين، للانتقال شيئا فشيئا إلى الإدارة المباشرة لعمليات تهريب المخدرات أو الدعارة، إذا ما اقتصرنا على هذين المثالين. هذه ليست تقديرات، بل إنني أتحدث عن وقائع ثابتة، فيما يخص سويسرا».
وكما يبدو فإن المافيا هي، حتى الآن المستفيدة من أزمة عالمية تهز النظام الاقتصادي العالمي من قواعده التي توهمنا جميعا بأنها صلبة
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2281 - الأربعاء 03 ديسمبر 2008م الموافق 04 ذي الحجة 1429هـ