عندما كثر الحديث عن وجود حياة على كوكب آخر غير الأرض في نهاية الستينات ومطلع السبعينات، قامت وكالة الفضاء الاميركية بإطلاق مركب فضائي باسم (Pioneer 01) وذلك في العام 1972 لاستكشاف المجرات، والفكرة هي انه اذا كان هناك من يعيش على كوكب آخر بعيد عن الأرض فقد يتمكن من تسلّم الرسالة المرفقة مع المركب الفضائي. ولكن المشكلة كانت في تحديد اللغة والاشارات والرسومات التي ستحويها هذه الرسالة التي كتبت على صفيحة معدنية. وتوصّل القائمون على المشروع الى فكرة الرسالة التي احتوت على رسم لشكل ذرة الهيدروجين، ورسم يحدد جسم الأرض التي نعيش عليها مقارنة مع الكواكب والمجرات الاخرى (متخذة حجم ذرة الهيدروجين مقياسا لذلك). واحتوت الرسالة على صورتين احداهما لامرأة واخرى لرجل رافعا يده بأسلوب التحية. والذين كتبوا الرسالة أرادوا إيصال فكرة لأولئك الغرباء الذين يعيشون على كوكب آخر ربما يبعد عنا ملايين السنين الضوئية لتقول لهم ان المخلوقات (الرجل والمرأة) يعيش امثالهما على الأرض التي تقع كما هو موضح في الرسم وان حجم الأرض يمكن قياسه نسبيا بالمقارنة مع حجم ذرة الهيدروجين.
الرسالة الموجهة انطلقت من فهم الانسان على الأرض لمعنى الذرة ولمعنى الهيدروجين. وكيفية رسم ذرة الهيدروجين امر خاص بإنسان الأرض، فمن يتسلمها قد يكون رسمها بأسلوب أخر ان كان قد وصل الى التقدم الذي وصل اليه انسان الأرض. ثم ان اشكال الرجل والمرأة من دون ملابس قد يوحي للمتسلم بقلة الادب وازدياد حنقه على اهل الأرض. اما الرجل الذي رفع يده للسلام والتحية معلنا نيته السلمية، فقد يفهمها من يتسلمها ان معناها اعلان الحرب، لأن رفع اليد بهذه الطريقة يعني شيئا معينا لنا نحن اهل الأرض قد لا يعني الامر ذاته بالنسبة إلى آخرين ليس لهم علاقة بنا.
والامر الذي يثير في هذه الرسالة هو موضوع الرسالة واشاراتها وطريقة فهمها. فالرسالة التي نرسلها للغرباء قد تعني شيئا آخر، وهذا امر خارج عن ارادتنا. ربما أن الامر ليس خارج تصور الهوليوود التي انتجت لنا فلما باسم «الاستقلال» في 1997 وتحدثت فيه عن احتلال الأرض من قبل قوم غرباء آخرين. ويصور لنا الفيلم صعوبة التفاهم مع هذه المخلوقات وتطور التكنولوجيا المتوافرة لديهم وفي الوقت ذاته يصور الفيلم «سهولة» تحرير الأرض (كل الكرة الارضية) بقيادة الاميركان طبعا. لن أتبرع بأي اقتراح لتسهيل مهمة (Pioneer 01) فهو امر خارج مجال استطاعتي واهتمامي. عير انني لا اعتقد ان المشكلة التي سيواجهها خلق آخرون بعد ملايين السنين مشكلة خاصة بهم. فالقوم الذين ارسلوا الرسالة (انسان الأرض) لديهم المشكلة ذاتها، مشكلة «سوء فهمهم لبعضهم بعضا». وحتى يتعايش الانسان مع اخيه الانسان فإن عليهما ان يخلقا حالا من الأمن والاستقرار بينهما. هذا الأمن والاستقرار يتحقق إما عن طريق غلبة احد الطرفين على الاخر واستسلام كامل لاحد طرفي المعادلة. وهذه الغلبة تحتاج إلى الشراسة والقهر وكل امكانات القوة التي يستطيع احد الطرفين احتكارها واستخدامها ضد الطرف الآخر المستسلم. عندها يتحقق «سلم» ولكنه سلم قائم على مسالك الغابة التي يسيطر فيها القوي (جسمانيا وماديا) على الضعيف. الاسلوب الآخر لتحقيق السلم من اجل التعايش هو فتح الحوار والنقاش للتفاهم والاتفاق بين الانسان واخيه الانسان. هذا التفاهم يقوم في الاساس على احترام متبادل للحقوق المتعلقة بكل طرف مع تطور الثقة. ولهذا فإن السلم والوئام الدائمين كانا دائما يعتمدان على مد الجسور وبناء الثقة المتبادلة. هناك بطبيعة الحال تعقيدات الظروف والحياة ولهذا فإن الانسان يستخدم «السياسة» لادارة شئونه مع اخيه الانسان ومع محيطه. والسياسة الناجحة هي التي تستطيع توضيح الطريق لتحقيق النتائج المرجوة من دون اللجوء إلى القوة. ولهذا فإن انتشار الحروب وتدمير العمران يعبر عن فشل الانسان في التفاهم مع اخيه الانسان. ولهذا فإن إلقاء قنابل نووية على اليابان وتطوير الترسانات النووية التي تستهلك الامكانات الضخمة يعبر ايضا عن فشل الانسان في التفاهم مع اخيه الانسان.
إلا انه ايضا من الواضح ان التطرف في هذه النظرة يؤدي إلى «الطوباوية» والمثالية غير القابلة للتنفيذ. فالاتحاد السوفياتي، مثلا، الذي قام على اساس المفاهيم الماركسية الداعية إلى اشاعة السلطة والثروة وانعدام السلطة والقوة انتهى به الامر الى انعدام الثروة والسلطة من ايدي الناس وتركيزها في ايدي القلة الماسكة بجهاز الحزب الشيوعي وبأجهزة المخابرات. وينطبق على هذا الامر المثل القائل «كل شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده».
التحدي الذي يواجهه الانسان يكمن في الموازنة. الموازنة بين توافر القوة لحماية مصالح المجتمع (المجتمع المحلي أو الاقليمي أو الدولي) من خلال «حكم القانون» العادل والمتفق عليه وبين توافر المجال الكافي للنقاش والحوار والتفاهم دون الاخلال بالسلم (السلم المحلي أو الاقليمي او الدولي). ولهذا فقبل ان نرسل رسالة التحية والسلام إلى مخلوقات اخرى، علينا ان نرسل الرسالة إلى أنفسنا علّنا نفهم بعضنا بعضا
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 228 - الإثنين 21 أبريل 2003م الموافق 18 صفر 1424هـ