تتبارى الأنظمة الدكتاتورية وخاصة التي وصلت الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، في بداية عهدها في الترويج والتطبيل، أن أولى مهامها مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، وعادة ما تقوم تلك الأنظمة بحملات محدودة النطاق فتطيح ببعض الرؤوس التي لا تتناسب مع الوضعية الجديدة وغالبا ما تكون تلك الرؤوس المطاح بها، من الرموز القديمة «الحرس القديم» التي زكمت رائحة فسادها الأنوف فيعطي خبر محاكمتها ارتياحا ما في أوساط العامة التي تستبشر خيرا متوهمة أن عهدا جديدا قد بدأ.
ولكن نظرة متفحصة لطبيعة تلك الأنظمة تبين أن الأمر أعقد من ذلك بكثير لأن العقد المضمر القائم بين السلطات المستبدة والفساد يكاد يكون عقدا أبديا بحيث أن زوال أحدهما يعني زوال الآخر بالضرورة، لأن الفساد يعطي النظام المعني ورقته القوية في اللعب بضمائر الناس وإفسادها، وفي تقديم المزايا الخاصة للرؤوس التي تشكل مواقعها خطرا قد يهدد النظام، حيث يعطي النظام تلك الرؤوس مزايا استثنائية الأمر الذي يجعلها تستميت وتستشرس في الدفاع عن الوضع القائم لأنها بذلك تدافع عن امتيازاتها ومصالحها. وبالمقابل يعمل النظام على ديمومة واستمرارية الفساد بحيث يترك الأبواب أمامه مفتوحة ومشرعة باتجاه الإفساد المتعمد، بحيث «يجعل الجميع مدانين تحت الطلب»، وفق تعبير المفكر طيب تيزيني وفق توصيفه للدولة الأمنية، حيث تستخدم السلطة الفساد بكل أشكاله (فساد مالي وسياسي وأمني وجنسي...) من أجل ترسيخ سيطرتها وقمع معارضيها وتفتيت كل تجمع مدني حر وإفقار الحياة السياسية عن طريق شراء ضمائر المثقفين والسياسيين وخاصة الضباط ذوي المواقع الحساسة حيث يتم التغاضي عن كل فسادهم وجبيهم اللا مشروع للأموال والسيارات والشقق، مقابل ولائهم الكامل. وبذلك يصبحون جزءا من بنية النظام نفسها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواطنين الذين يصبح جل همهم الوصول إلى منصب مهما كان صغيرا يستطيعون من خلاله تحسين أوضاعهم، الأمر الذي يعني أن هذه السلطات لا تستطيع محاربة الفساد ولا تريد ذلك أصلا لأن هذا يعني حفر قبرها وإقصاءها من موقع الحكم، لأن تقليص حجم الفساد يعني توزيع عادل بشكل ما للثروة، ولجم يد السلطة عن شفط أموال الناس واستخدامها بما يديم سيطرتها.
إن شعار محاربة الفساد في النظم الشمولية ونظم الاستبداد هو مجرد شعار طالما أن بنية هذا النظام ستبقى محاصرة بمنظومة قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء وغياب الحرية وعدم وجود قانون عصري للأحزاب، ذلك لأن الاستثناء والفساد مترادفان أيضا لا يستمر أحدهما دون الآخر، عندما تستثنى الغالبية من ميزات معينة تمنح لأقلية معينة نتيجة قرابتها السياسية أو العائلية من السلطة، الأمر الذي يعني أن محاربة الفساد لا يمكن أن تكون جدية دون إلغاء قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء التي تمنح النظام شرعيته المفقودة شعبيا.
غالبا ما يطرح أفراد السلطة - وخاصة في العالم الثالث - الواصلين حديثا إليها شعار مكافحة الفساد، - وبعضهم يكون صادقا - فيبدأ بحملات إصلاحية محدودة هنا وهناك لمحاولة تصويب الوضع القائم قليلا، وليعطي النظام الجديد نفسه شيئا من الشرعية ولكن حتى هذا الإصلاح الجزئي قد يقوم بتعميق الفساد أكثر مما يحده لأنه ينطلق في محاربة الفساد من زاوية ضيقة لا ترى الجذر الحقيقي للفساد وهو طبيعة النظام وآلية عمله المفرخة للفساد بجميع أشكاله، فتعمل هذه الإصلاحات على خلخلة البنية الراكدة لنظام لا يحتمل الخلخلة أساسا، الأمر الذي يوضح لنا تراجع أغلب هذه النظم عن شعاراتها في مكافحة الفساد لأنها تستشعر مدى خطر هذا الأمر على بنية النظام المتعيشة على الفساد، فيغدو إصلاحها بعد ذلك هو مجرد استبدال أشخاص أتخموا من النهب - وغالبا ما يتم نقلهم لأماكن دنيا - وبأشخاص جدد جيوبهم مجهزة لتعبّأ.
إن شعار محاربة الفساد لا يمكن أن يطرح بعيدا عن منظومة كاملة من الإجراءات أهمها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن محاربة الفساد تأتي ضمن هذه المنظومة ولا يمكن لها أن تنجح خارجها حيث أن حالات الاستثناء واليد المطلقة للسلطة وتغييب القضاء (وهي الركائز الأساسية لتغلغل الفساد وترسخه) لا يمكن أن تبتر إلا من خلال الديمقراطية التي تعطي الجميع حقوقا متساوية وتحد من تدخل السلطة وتُخضع الجميع لمبدأ القضاء، وهذا الأمر يستحيل تحققه في نظم استبدادية تسعى للسيطرة أكثر مما تسعى إلى تحقيق مطالب مجتمعاتها وترسيخ قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.
* باحث وكاتب سوري،
والمقال يُنشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.or
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2276 - الجمعة 28 نوفمبر 2008م الموافق 29 ذي القعدة 1429هـ