عندما وقعت الأزمة المالية العالمية وتبلورت معالمها بوجه خاص خلال شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2008 برز تساؤلان كبيران بشأن دور قوى دولية غير غربية سواء في مدى تأثرها بهذه الأزمة أو في مدى إمكانات مساهمتها في حلها، هاتان القوتان هما: الصين والدول البترولية العربية ومن هنا برزت مقولات ترتبط بالقوة النفطية العربية، طرحها مفكرون مسلمون الأولى إن مؤسسات التمويل الإسلامي لن تتأثر بالأزمة المالية لأن أصولها حقيقية وليست افتراضية والمقولة الثانية إن العالم بدأ يدرك أن أساس الأزمة المالية العالمية هو المصارف ومؤسسات التمويل الربوية.
وأن الله حرم الربا وأكد في القرآن ذلك بقوله «يمحق الله الربا ويربي الصدقات» الآية 276 سورة البقرة. ولما كان النظام المصرفي الحالي يقوم على مفهوم الربا فإن ذلك أدى إلى حدوث الأزمة المالية، ولهذا فإن العالم بدأ في التفكير في النظام الاقتصادي والمالي الإسلامي كمخرج من هذه الأزمة (محاضرة الشيخ علي السالوس بدعوة من جمعية الأصالة في البحرين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 تقدم نموذجا لهذا التوجه)، أما المقولة الثالثة فتبنتها بعض الدول الغربية وخصوصا بريطانيا والولايات المتحدة وهي أن الدول النفطية الخليجية عليها مسئولية تجاه استقرار الاقتصاد العالمي والنظام المالي ومن ثم يجب عليها أن تضخ أموالا من فوائض أموالها لمواجهة الأزمة المالية ولهذا زار رئيس وزراء بريطانيا جوردون براون أوائل نوفمبر 2008 عددا من الدول الخليجية ومنها السعودية والإمارات وقطر وطالبها بضخ أموال في صندوق النقد الدولي من أجل مساعدة الدول التي تواجه أزمات، كذلك طلبت الولايات المتحدة من دول الخليج الأربع (السعودية - الإمارات - قطر - الكويت) مساعدة بمبلغ 380 مليار دولار لمواجهة الأزمة المالية.
وينبغي هنا أن نشير إلى عدة حقائق رئيسة تساعد في الفهم الحقيقي للواقع الاقتصادي الدولي ومن ثم معرفة مدى إمكان مساهمة التمويل الإسلامي من ناحية، ومدى تأثره بالأزمة من ناحية أخرى، وأخيرا حقيقة مقولة أن العالم يفكر في تبني نظام التمويل والمصرفية الإسلامية.
أولا: حقائق أساسية
إن النظام الاقتصادي والمالي العالمي قائم على أساس الفكر الرأسمالي الحر مع تطعيمه من حين لآخر بأفكار ذات طبيعة اشتراكية أو ذات منهج تدخلي وخصوصا بالنسبة إلى دور الدولة في انعاش الاقتصاد. وهذا التوجه ارتبط باختلاف المدارس الاقتصادية الرأسمالية. فالرأسمالية التقليدية التي عبر عنها آدم سميث وريكاردو وغيرهما من دعاة الاقتصادي الرأسمالي القائم على حرية العمل وحرية السوق بصورة مطلقة وأن التوازن بين العرض والطلب يتم من خلال ما أطلق عليه اليد الخفية Invisible Hand في السوق، نقول إن هذا الفكر لم يكن دائما موضع قبول من المفكرين الاقتصاديين والاجتماعيين في الغرب ولهذا ظهرت نظريات عدة تدعو لتدخل الدول من خلال السياسات المالية والسياسات النقدية لتنشيط الدورة الاقتصادية ومواجهة الأزمات والركود، ولعل من أبرز دعاة هذا الاتجاه جون مايرد كيمز في درسته للركود العالمي الكبير من 1929 - 1933، ومنهج الرئيس الأميركي روزفلت في السياسة الجديدة New Deal لإنعاش الاقتصاد، ولكن سبق ذلك كما أتى بعدهم أيضا مفكرون آخرون في إطار الفكر الرأسمالي، كما برزت المدرسة التعاونية في القرن التاسع عشر وكذلك المدرسة التعاونية في القرن التاسع عشر وكذلك المدرسة الاشتراكية في الاقتصاد وفي التنمية وهي أيضا كذلك في حضن الفكر الاقتصادي الغربي.
ثانيا: نشأة وتطور مفهوم النظام الاقتصادي والمالي الإسلامي
لم يظهر النظام الاقتصادي الإسلامي أو مفهوم الاقتصاد الإسلامي كعلم إلا في منتصف القرن العشرين كما لم يظهر مفهوم المصارف الإسلامية إلا في ستينيات القرن العشرين، وظلت هذه الطروحات محدودة الأثر والتأثير والأهمية حتى أواخر القرن العشرين بعد الطفرة النفطية الأولى ثم الثانية، وتعاظم الاهتمام بها منذ بداية القرن الحادي والعشرين اتصالا بثلاثة عوامل/ أولها عوائد النفط الكبيرة، ثانيها/ ارتباط الاقتصاد النفطي الخليجي بالاقتصاد العالمي (إنتاج النفط تقوم به شركات عملاقة متعددة الجنسيات وهي غربية، التسويق والاستهلاك تقوم أيضا به شركات مماثلة)، وثالثها/ نشاط حركة الأموال النفطية في تمويل بعض الجماعات الإسلامية التي انتشرت عالميا في إطار شبكات متعددة اتهم بعضها بتمويل الجماعات التي تدعو للتطرف والإرهاب ومن ثم بدأ الحظر على نشاط تلك الجماعات والرقابة على حركة رؤوس الأموال وتنقلاتها.
ومن هنا زاد اهتمام الدول الإسلامية بمفهوم الصيرفة والتمويل الإسلامي في الدول الإسلامية ولما وجد الغرب زيادة الأموال الناتجة عن الطفرة النفطية الثالثة منذ العام 2003 لدى الدول النفطية وزيادة اهتمامها بما أطلق عليه المصارف الإسلامية، بدأ الغرب يعيد حساباته بدراسة الاقتصاد الإسلامي ومؤسسات التمويل الإسلامي، وعقدت عدة مؤتمرات دولية في أوروبا وبريطانيا وخصوصا في هذا الصدد، كما اتجهت المصارف التجارية في عدد من الدول، إما لفتح مؤسسات مالية باسم مؤسسات تمويل إسلامي وبنوك إسلامية وإما بفتح نوافذ للصيرفة الإسلامية في بعض المصارف التقليدية.
إذن بالنسبة إلى المقولة بأن العالم بدأ يفكر في الصيرفة الإسلامية هي صحيحة جزئيا مع اختلاف في الأسباب والدوافع لذلك، فهو ليس اقتناعا بسلامتها ولا بأن الربا غير صحيح وأنه سبب الكوارث، وإنما سعيا للاستفادة من تلك الأموال واجتذابها للاستثمار لديها. والواقع أن هذا المسعى دعت اإيه ثلاثة اعتبارات منها تزايد أموال النفط في الطفرة الثالثة، وسعي تلك الأموال للبحث عن مجالات للاستثمار في الخارج لشضعف منافذ الاستثمار في الدول العربية والإسلامية نتيجة ضعف ثقتها في التعاون البيني العربي والإسلامي إما بسبب ضعف البنى الأساسية والضمانات القانونية للحفاظ على الأموال وإما التنافس والاختلافات السياسية بين الدول العربية والإسلامية بعضها بعضا، مما يجعل الإدارة السياسية للتعاون البيني ضعيفة، وكذلك الثقة في جدواها. أضف لذلك بدأ تزايد الجاليات العربية في أوروبا بوجه خاص، واحتفاظ تلك الجاليات بفكرها وتراثها التقليدي بالنسبة إلى مفهوم الربا، وإذا كان معظم أفراد تلك الجاليات من الفقراء أو الطبقة المتوسطة، فإن قلة هم من الأثرياء الكبار الذين يودعون أموالهم في المصارف الأميركية والأوروبية ولابد من تقديم بديل مقبول لهم حفاظا على توجهاتهم الدينية والاجتماعية.
ولكن يمكننا القول باطمئنان أن المقولة التي يرددها بعض الدعاة الإسلاميين أمثال علي السالوس في محاضرته المشار إليها آنفا أن عالم اقتصاد فرنسي أو مجلة اقتصادية فرنسية أو إيطالية أو بريطانية دعت إلى الأخذ بالنظام المالي الإسلامي هي مقولة بها الكثير من المبالغة، وتعتمد على مصادر ليست بدرجة الثقة الحقيقية، التي يمكن أن يبنى عليها البحث أو الفكر الاقتصادي العالمي من منظوره العلمي. كما أن رد الفعل الغربي وبخاصة الأميركية المرتبط بظاهرة محاربة الإرهاب الموسوم بالإسلامي وظاهرة الإسلام وفوبيا تجعلنا لا نتقاءل بأية مقولات يرددها باحثون لإرضاء تطلعات وتمنيات دول أو شخصيات إسلامية، ومن ذلك ما نشرته جريدة «الاقتصاد» السعودية بتاريخ 8 نوفمبر/ تشرين الثاني في صفحة 13 بأن جماعة ضغط يمينية متشددة تطالب بحظر فوري لتبني أدوات التمويل الإسلامي، في مؤسسات المال الأميركيى، لأنه أساسا لا توجد دعوة ذات صدقية لتبني وزارة الخزانة الأميركية لأدوات التمويل الإسلامي حتى يقال إن هناك دعوة مضادة. وإن كان يمكن تصور دعوة للحصول على أموال البلاد الإسلامية من المصارف الإسلامية بلا فوائد، أو قيام المصارف الإسلامية بشراء سندات وأدوات مالية في المصارف الغربية وهذه حقيقة قائمة لأن كثيرا من الأموال العربية يتم استثمارها في الغرب، سواء كانت أموال مصارف تقليدية أو بنوك مسماة بالبنوك الإسلامية، لضيق السوق الاستثماري المالي في الدول العربية كما سبق الإشارة، ونجد أيضا في السياق نفسه توجها لبعض علماء المسلمين الذين يبدون شماتة في النظام الرأسمالي الغربي والتبشير بانهياره بنوع من الغبطة والشماتة انظر على سبيل المثال اقتباسات عدة منهم في صحيفة «النبأ» البحرينية 12 نوفمبر 2008 ص 17، وأيضا صحيفة التجارة البحرينية سلسلة مقالات في أكتوبر/ تشرين الأول - نوفمبر 2008 بعنوان أزمة النظام المالي العالمي في ميزان الاقتصاد الإسلامي، وأيضا صلاح فهد الشهلوب «دروس من الأزمة للمصرفية الإسلامية... سياسة الاقراض» الاقتصادية السعودية 8 نوفمبر 2008 ص 13، ونحو ذلك وفي تقديري أن هذه نظرة غير موضوعية وضيقة الأفق ومحدودة النظر ولا تمت من حيث روحها إلى روح الإسلام وجوهره وتسامحه.
والنقطة الثانية أن كثيرا من المصارف الإسلامية تعتمد في معظم الحالات على الأدوات المالية والمشتقات المالية التي طورتها المصارف التقليدية وتغير فقط في مسمياتها (حول لمشتقات المالية الائتمانية انظر تصريح خبير في المصارف الإسلامية سامي سويلم في صحيفة «النبأ» البحرينية 12 نوفمبر 2008 ص 17).
فالفائدة تصبح مقابل خدمة أو مصروفات إدارية، ويتم استخدام أساليب تحايل كثيرة انتقدها عدد من المختصين في المصارف الإسلامية ذاتها واتهموا مؤسسات ومصارف إسلامية بأنها لا تلتزم بالقواعد الإسلامية الصحيحة، وإن هيئات الفتوى الشرعية لديها ليست على المستوى العلمي المناسب، أو أنها تتساهل وتبدي مرونة في فتاواها لدوافع كثيرة، وهذا الانتقاد ليس جديدا وإن تزايد مع تزايد انتشار المصارف الإسلامية، ويعترف به معظم العاملين في تلك المصارف على أساس حداثة التجربة، وإنه يتم مراجعتها وتنظيمها باستمرار وإنها تخضع لرقابة المصارف المركزية وتلتزم بمعايير هيئة المحاسبة الإسلامية.
ومن ناحية ثالثة فإننا نجد أن الذي يجري التقييم الائتماني للمؤسسات والمصارف الإسلامية هي المؤسسات المالية الغربية أمثال وكالة التصنيف العالمية ستاندارد اند بورز وغيرها. وهذا يعني أن أمامنا شوطا طويلا حتى يمكن القول بوجود نظام مالي إسلامي يعتمد على نفسه ومنفصل عن النظام المالي العالمي القائم.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2273 - الثلثاء 25 نوفمبر 2008م الموافق 26 ذي القعدة 1429هـ