(3) في الكفاح ضد القرصنة البحرية، يجب التركيز دوما على الاستخدام الأمثل لسلاح المعلومات، وتنسيق جهود المؤسسات الأمنية المعنية بشئون الأمن البحري وتطوير قدرتها على العمل معا.
بما أنّ معظم الهجمات التي قام بها القراصنة الصوماليون تم التخطيط لها على أساس معلومات تم جمعها مسبقا عن السفن والناقلات المستهدفة (إذ يستعملون لهذا الغرض نظام تحديد المواقع العالمي والهواتف التي تعمل بالأقمار الاصطناعية، ولديهم شبكة نشطة من الجواسيس في موانئ مجاورة مثل: دبي وجيبوتي وعدن لرصد ضحاياهم)، فإنّه لا مناص للدول المعنية بمحاربتهم من استخدام سلاح المعلومات نفسه لهذا الغرض.
ولأنّ البيئة البحرية لا تزال أقل مناطق العالم انضباطا من الناحية الأمنية في الوقت الراهن، فإنّ الوعي بالمجال البحري يُعد ذا أهمية كبيرة من أجل التنبؤ بالوقت والمكان المحتملين لتنفيذ هجمات القرصنة والإرهابيين، وهذا يتطلب الاستعانة ببيانات المراقبة والمعلومات الاستخباراتية، وتوفير هذه المعلومات للأطراف التي تحتاج إليها.
ودول إقليم البحر الأحمر، كبقية دول العالم التي تواجه تهديد القرصنة البحرية والإرهاب البحري، ينبغي أنْ تولي هذا الجانب اهتماما متزايدا؛ فتبادل المعلومات يلعب دورا جوهريا في تحسين الأمن والسلامة البحرية. ومن هنا تبرز الحاجة، ليس إلى إنشاء بعض المراكز الإقليمية لمكافحة القرصنة البحرية كما فعلت دولة كاليمن فحسب، بل كذلك إلى تكوين خلية (أو خلايا مشتركة بالأحرى) لإدارة الأزمات المتعلّقة بالأمن البحري، بالتوازي مع إقامة مركز عمليات مشترك يجمع بين المعلومات الاستخباراتية وبيانات المراقبة، ويتولى عملية تخطيط وتنفيذ التدريبات والمناورات والتخطيط للعمليات، وهذا الأمر يستلزم بدوره تعاونا وثيقا وتنسيقا نشطا بين المؤسسات والهيئات المعنية داخل كلّ دولة على حدة (خفر السواحل والقوّات البحرية بصفة خاصة) وهو الأمر الذي قد يتطوّر خلال فترة وجيزة إلى أنشطة تتم على مستوى دول الإقليم والقوى العالمية الكبرى المهتمة بأمن الملاحة البحرية في هذه المنطقة.
على أنّ حاجة حكومات دول الإقليم المتضررة الذاتية إلى جهود قوّات البحرية وخفر السواحل معا وفي الوقت نفسه، تقتضي منها القيام بدراسة السُّبل المُثلى لتنفيذ العمليات المشتركة بين الجانبين. وأول خطوة يمكن اتخاذها في هذا الإطار هي توفير المعدات الأساسية والتواصل بين الطرفين ثم تقديم الدعم اللوجيستي والتدريب المشترك.
ومن بين الخيارات المتاحة عند وجود كلتا الجهتين في المكان نفسه، انتداب ضباط بحرية رفيعي المستوى لقيادة قوات خفر السواحل. فعلى سبيل المثال، يتولى ضابط بحرية هندي برتبة لواء قيادة حرس السواحل الهندية بينما يتولى ضابط بحرية أسترالي برتبة فريق قيادة قوّات حماية الحدود الأسترالية. ويتم الاستعانة بكبار الضباط للاستفادة من خبرتهم الواسعة وقدرتهم على إيجاد تواصل فعّال بين المؤسستين الأمنيتين.
وإذا كان التعاون بين القوّات البحرية وخفر السواحل بات ضروريا في هذه المرحلة، وبما أنّ قوة خفر السواحل تستخدم كثيرا من مهارات قوّات البحرية، فلابدّ من وضع آلية خاصة لإقامة تدريب مشترك متى أمكن.
ولا شك في أنّ التدريبات والمناورات وتبادل المواقع والمسئوليات أمرٌ مهمٌ للغاية؛ إذ تسهم جميعها في الارتقاء بالمهارات الفردية ثم المهارات الجماعية داخل السفينة وبين السفن الأخرى، وقبل هذا كله ينبغي على الجهتين إقامة نوع من الاتصال، بناء على تنسيقٍ مُسبق عالي المستوى بين المؤسسات الأمنية الكبرى كوزارة الداخلية والدفاع وأجهزة الاستخبارات القومية، مع التأكيد على فهم كلّ منهما للطرف الآخر واستيعاب مبادئه وإجراءات التشغيل الخاص به.
(4) ضرورة إدماج الإدارة الأميريكية وإقناعها ، بوضوح ومن دون مواربة، بأنّ مواجهة القراصنة الصوماليين ليست شأنا إقليميا فقط بل يقع في صميم مسئوليات الولايات المتحدة الأمنية العالمية، وحربها الكونية ضد الإرهاب.
تكمن إحدى المفارقات المثيرة للانتباه في قضية القرصنة البحرية على امتداد السواحل الصومالية في الدور الأميركي غير المباشر الذي ساهم في مفاقمة هذه الظاهرة الإجرامية إلى الحد الذي شكلت معه مصدر قلق عالمي جدّي ومتعاظم. وإذا استخدمنا تعبير مجلة «نيوزويك» الأميركية فإنّ «هوس واشنطن بالإرهاب كان نعمة بالنسبة إلى قراصنة المنطقة»، إذ أنّ حرب الولايات المتحدة على الإرهاب في المنطقة أدت إلى عواقب غير مقصودة؛ فخلال سيطرة المحاكم الإسلامية على الأوضاع في مقديشو وأجزاء واسعة من الصومال غابت القرصنة بصورة شبه كلية في منطقة القرن الإفريقي، ولم يشهد صيف العام 2006 أيّ عمليات قرصنة ضد السفن، لكن إدارة بوش بدعمها التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال نهاية العام ذاته والذي قوّض حكم الإسلاميين ونفوذهم في البلاد، دفعت الصومال - وعن غير قصد، على الأرجح - إلى الغرق في الفوضى من جديد.
وقد استغلت عصابات القرصنة هذه الفرصة أحسن استغلال، وبعد فترة من غيابها القسري عن المشهد الصومالي إثر هزيمتها على يد المحاكم الإسلامية عادت مجددا إلى واجهة الأحداث، وبدعم من بعض زعماء الحرب الصوماليين المرتبطين بالحكومة الانتقالية، ولم تمضِ سوى أشهرٍ قليلة حتى أخذت عجلة القرصنة في الدوران من جديد ولكن بزخمٍ غير مسبوق هذه المرة. ففضلا عن تقويض التجارة وتهديد خطوط الملاحة البحرية الدولية، أخذ القراصنة أيضا بتهديد شحنات المساعدة الضرورية لإعالة ما يزيد على ثلث الشعب الصومالي (نحو 2.6 مليون شخص) يعيشون على شفير المجاعة.
والحال أنّ تغيّر المشهد الإستراتيجي والأمني في الصومال تحت وطأة التدخل الأميركي المنسجم مع التزام واشنطن المعلن بمحاربة ما تسميه «التطرف الإسلامي»، كان باهظ الثمن هذه المرة وبدأت فواتيره تظهر تباعا. وفي حين شرعت العديد من دول المنطقة في الدَّفع من خلال تحملها عبء مواجهة القرصنة البحرية المزدهرة في مياه المنطقة، الأمر الذي أثقل كاهلها بعبءٍ أمني آخر يضاف إلى قائمة أعبائها الكثيرة، ناهيك عن تأثرها المباشر والسريع بالتداعيات السلبية لظاهرة القرصنة على الصعيد الاقتصادي، والتي تجلت بعض مظاهرها مؤخرا في زيادة رسوم التأمين على النقل البحري عبر خليج عدن بنسبة عشرة أضعاف، وتصاعد احتمال توقف الملاحة عبر باب المندب وقناة السويس وتحوّل مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح مرة أخرى؛ فإنّ الولايات المتحدة في المقابل، وبعكس قوى دولية أخرى كفرنسا التي تمكّنت مؤخرا (تحديدا في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2008) من استصدار القرار 1838 من مجلس الأمن الدولي، والذي يُشرِّع - في سابقة «تاريخية» هي الأولى من نوعها وبموجب الفصل السابع - استخدام القوة بهدف مكافحة القرصنة في الصومال؛ لم تُبدِ (أي الولايات المتحدة) حتى الآنَ تقديرا ملائما وكافيا لجهة تعاظم تهديد القرصنة البحرية في منطقة القرن الإفريقي وجنوب البحر الأحمر، رغم أنها لاعب رئيسي في المنطقة ويعتد بدورها الأمني كثيرا.
ويبقى الرهان في سبيل تحفيز الدور الأميركي المنتظر واستنهاضه، وهو ما ينبغي أنْ يركز عليه صانعو السياسات في المنطقة ويعملوا على إثارته في حواراتهم المختلفة مع الأميركيين، يبقى كامنا في حضور العامل الإرهابي في الصورة، وبعبارة أخرى أكثر صراحة فإنّ الطريقة الوحيدة لجذب اهتمام واشنطن هي إظهار أنّ هناك صلة ما بين القراصنة الأعداء والإرهاب الكوني.
وتنبع أهمية هذا الرابط من حساسية العامل الإرهابي ودوره المفصلي في توجيه سياسة أميركا الخارجية وتوجهاتها الأمنية الراهنة على المستوى العالمي. ومع أن هذا الرابط لم يفلح في استثارة الإدارة الأميركية في أوقات سابقة بحيث جعلها تنظر إلى القرصنة البحرية على أنّها أولوية، رغم حاجة عالم الشحن بالسفن وقتذاك أيضا إلى الحماية، لكن الوضع تغير بدءا من شهر سبتمبر/ أيلول 2005 عندما أصدرت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش وثيقة أمنية إستراتيجية بعنوان «الإستراتيجية القومية لأمن الملاحة البحرية». وتشدد هذه الوثيقة على أنّ حماية البحار مهمة حسّاسة تواجهها الولايات المتحدة كجزءٍ من حربها على المتشددين الإسلاميين في أرجاء العالم لمنعهم من استخدامها كمسرح للهجمات، أو كوسيلة لنقل الأفراد والموارد، وخصوصا من تنظيم «القاعدة».
وتحتوي الوثيقة على عدد من البنود والالتزامات التي من شأنها تعزيز خطوات التعامل مع الأخطار التي تواجهها الملاحة البحرية، ويهم دول الإقليم منها البند المتعلّق بـ «عرض توفير عمليات التدريب في مجال أمن الموانئ والملاحة البحرية للدول المعنية، وإعطاء أولوية لبرامج الدعم الأمني بهدف تقديم المساعدة في ما يخص أمن الموانئ ونطاق الملاحة البحرية»، وكذلك البند الذي تؤكد فيه الولايات المتحدة على «تشجيع جميع الدول على زيادة نطاق الوعي بتعزيز قدراتها في مجال الملاحة البحرية، وهي القدرات التي يمكن في المقابل التشارك بها في المناطق المهمّة ذات الحساسية العالية».
والحال أنّ هذه الوثيقة تتيح لهذه الدول، وبعضها كاليمن وجيبوتي وعمان والسعودية حليف رئيسي في الحرب على الإرهاب، طلب عون مباشر من الولايات المتحدة يساعدها في الحد من خطر القرصنة والسطو المسلح على السفن، وذلك من خلال تقديم المزيد من الدعم لقوّات خفر السواحل التابعة لها، وتوفير عمليات التدريب لعناصرها بما من شأنه رفع مستواهم المهاري والتقني وتطوير قدرتهم على مواجهة التهديدات المحتملة. وبالمثل، مساندة - لا عرقلة - أيّ توجهات ترمي إلى إطلاق حوار إقليمي يهدف إلى تطوير نظام أمني بحري جماعي يشمل جميع القضايا والهواجس الأمنية المشتركة، بما فيها قضية القرصنة البحرية.
على أنّ استمرار حالة التراخي الأميركية تجاه قضية أمنية مستجدة بالنسبة لها، كقضية تفاقم القرصنة البحرية قبالة السواحل الصومالية، سيظل كعب أخيل الجهود الإقليمية والدولية التي ترمي لبناء إستراتيجية شاملة هدفها الحدّ نهائيا من خطر القرصنة في المنطقة واحتواء تداعياتها وأضرارها الأمنية كما الاقتصادية. وطالما استمر الشعور في واشنطن بأن هذه قضية هامشية، لا توازي في أهميتها وحجمها المعضلات الأمنية التي تواجهها الإدارة في العراق وأفغانستان أو الأزمة المالية المحتدمة التي زعزعت الاقتصاد الأميركي بشدة وألقت بظلالها على الاقتصاديات العالمية كافة، فإن العمل على تغيير هذه القناعة سيكون ضروريا، والنقطة الجوهرية التي يجب التركيز عليها في هذا السياق، والتي قد تثير حماسة واشنطن وتوليها اهتماما مضاعفا، هي تذكير الأخيرة على الدوام بأن أيٍّ من أشكال التراخي في مواجهة القرصنة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر من شأنه عرقلة الجهود الأميركية والدولية الخاصة بمكافحة الإرهاب خصوصا مع ظهور بوادر تغيّر في اتجاهات القرصنة على المدى القريب والمتوسط؛ فإذا كان القراصنة الحاليين لا يطالبون إلا بفدية مالية، لكن المطالب قد تتغير إذا دخل أفراد من شبكة إرهابية، كالقاعدة أو مجموعات موالية لها، هذه الحلبة؛ إذ قد يحاولون إغراق سفينة كبيرة عند مدخل قناة السويس، كما أن حدوث كارثة بيئية ضخمة، نتيجة قيام القراصنة بإتلاف إحدى ناقلات النفط التي تمر عبر خليج عدن، يظل احتمالا قائما كذلك.
* باحث وكاتب يمني وخبير في الشئون الجيوستراتجية، والمقال ينشر بالتعاون
مع «مشروع مصباح الحرية»
.www.misbahalhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2272 - الإثنين 24 نوفمبر 2008م الموافق 25 ذي القعدة 1429هـ