تمثل الصين قوة عالمية من حيث المساحة وعدد السكان وأيضا من حجم عراقة الحضارة وقدمها واستمراريتها في عناصرها الرئيسة، ولكن الأهم في عالم اليوم هو أن الصين هي القوة الرابعة في الناتج القومي الاجمالي (3.42 تريليونات دولار) بعد الولايات المتحدة وألمانيا واليابان بل هي القوة الثانية من حيث الناتج القومي الاجمالي محسوبا على أساس القوة الشرائية (7.99 تريليونات دولار) وهي القوة الثالثة من حيث حجم مساهمتها في التجارة الدولية والقوة الأولى في جذاب الاستثمار الاجنبي المباشر وأيضا في تصدير رؤوس الأموال إلى الخارج وهي في مقدمة الدول من حيث احتياطي النقد العالمي (1.9 تريليون دولار).
لكل هذه الاعتبارات فالصين قوة كبرى بجميع المقاييس. ولكن الصين ليست قوة عظمى فلايزال مجال البحث والابتكار والاختراع أمامه طريق طويل بالنسبة إلى الصين، كذلك تطويرها العسكري الفعلي سواء من حيث العتاد أو الاستعداد مقارنة بالولايات المتحدة أو حتى روسيا، ومن حيث معدل الدخل الفردي فلاتزال تنتمي إلى الدول النامية (نحو 2000 دولار متوسط دخل الفرد حاليا على رغم وجود عدة آلاف من الميلونيرات في الصين الحديثة).
والصين تحكمها عدة مبادئ رئيسة منذ حركة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها الزعيم دنغ سياوبنغ العام 1978 وتحتفل الصين هذا العام بذكرى مرور ثلاثين عاما على هذه الحركة التي تمثل نقلة نوعية في وضع الصين وفلسفتها وسياستها. فمن حيث الوضع نقلتها من دولة فقيرة ومتخلفة إلى دولة نامية متقدمة، ومن حيث الفلسفة طورت في مفاهيم الفكر الماركسي الماوي بإضافة دور رئيس للرأسمالية الوطنية والمثقفين غير الحزبيين، ومن حيث السياسات تخلت عن الشعارات الثورية وتصدير الثورة إلى التركيز على التجارة والمصالح والمنافع المتبادلة مع دول العالم، ثم سعت إلى الاندماح في نمط العولمة مع الحفاظ على خصائصها الذاتية.
وتتمثل ركائز الفكر الصيني الحديث في، رفض مبدأ سباق التسلح العالمي مع تطوير ذاتها وقوتها العسكرية، رفض سياسة التورط في الحروب البعيدة أو القريبة (تايوان مثلا)، والتركيز على التنمية وجعلها الأولوية المطلقة بعد الأمن الوطني، رفض مفهوم الهيمنة والسيطرة وبناء الإمبراطوريات مع إعطاء أولوية لمبادئ التعاون الدولي والسعي إلى إقامة علاقات تحقق المصالح المشتركة، وبالنسبة إلى مفهوم التعاون فهناك الكثير من المبادرات التي قامت بها الصين ومن ذلك مبادرات منتديات التعاون الصيني العربي، التعاون الصيني الإفريقي والتعاون الصيني اللاتيني، وهنا تركز الصين على التعاون من خلال الاستثمار في الموارد الأولية، تطوير البنية الأساسية، تطوير الموارد البشرية والتعاون الفني والثقافي، وهناك أيضا مبادرات القمة لآسيا والباسيفيك، والقمة الآسيوية الأوروبية، ومبادرة شنغهاي للتعاون الإقليمي، ومبادرة عشرة زائد ثلاثة (الآسيان، الصين واليابان، كوريا الجنوبية) ونحو ذلك.
الأسئلة المثارة على الساحة الدولية كثيرة ومنها هل تستطيع الصين المساعدة في حل الأزمة المالية العالمية؟ وكيف ومتى؟ وما هي شروطها لذلك، وللإجابة على ذلك نقول إن الصين تستطيع المساعدة ولو جزئيّا لكنها لا تستطيع حل كل المشكلات المالية العالمية. وبعبارة أخرى إن لدى الصين احتياطيا تقديا ضخما (1.9 تريليون دولار) يتم استثمار جزء منه في سندات الخزانة الأميركية، وهذا يمثل مصلحة مشتركة، فالصين تحتاج إلى السوق الأميركية لترويج وتسويق سلعها، وهي سوق ضخمة، ومن ثم فإن أي انهيار في هذه السوق أو في الاقتصاد الأميركي سيؤثر سلبا على الصين، من هنا حرص الصين على تدعيم الاقتصاد والوضع المالي الأميركي بشراء أذون وسندات الخزانة الأميركية. والحرص على التنسيق بين السياسات النقدية الصينية والأميركية بخفض سعر الفائدة مرتين خلال شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2008 وتبادل الآراء عن وسائل معالجة الأزمة المالية في القمة الأوروبية الآسيوية في أكتوبر 2008 في بكين، وقمة الدول العشرين في واشنطن في نوفمبر/ تشرين الثاني فضلا عن اجتماعات وزراء مالية الدول العشرين في سان باولو بالبرازيل في مطلع نوفمبر 2008. إذا الصين من وجهة نظرنا تضطلع بدور رئيس ومسئول في الاقتصاد العالمي وفي معالجة الأزمة المالية العالمية.
ولكن التوجه الصيني هذا ليس بلا شروط أو ضوابط، ولعل في مقدمة تلك الشروط هو تأكيد الصين أهمية الدور المسئول للدول الأخرى عن الأزمة المالية الراهنة، وأهمية التصرفات الواعية ووضع ضوابط لعمليات الإقراض، وأهمية التعاون المشترك بين جميع الدول وأخيرا أهمية التشاور المتبادل. مؤدى ذلك كله من الناحية الفعلية إرسال عدة رسائل؛ الأولى إن الصين لا تؤمن إيمانا مطلقا بالنموذج الرأسمالي الغربي الخاص بالحرية الكاملة للأسواق وإن هذه الأسواق تصحح نفسها بنفسها من خلال اليد الخفية التي تقيم التوازن بين العرض والطلب، والثانية إن الصين لا توافق على مفهوم الدورات الاقتصادية وتناوبها بين الازدهار والكساد لأن من شأن ذلك إضعاف الاقتصاد وإحداث اضطرابات وقلاقل وعدم استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي.
أما الرسالة الثالثة فهي ضرورة التشاور الدولي عن آليات الخروج من الأزمة وآليات العمل الاقتصادي والمالي والنقدي الدولي، وهذه الآليات ثلاث، هي: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي وهما معروفان باسم مؤسسات بريتون ووذز ولم تكن الصين طرفا في التفاوض من أجل إنشائهما ورسم سياستهما، ومنظمة التجارة العالمية وأيضا لم تكن الصين طرفا في إنشائها وانضمت إليها بعد مرحلة شاقة من التفاوض استمرت نحو 14 عاما.
وحرصت الصين من جانبها على أن تؤكد بطريقة ضمنية ان قراراتها الاقتصادية نابعة من ظروفها ومصالحها وليست بضغط من أية دولة أو أية قوة. ولهذا عندما أعلنت الصين أكبر صفقة حفز للاقتصاد الصيني بقرارها تخصيص نحو 600 مليار دولار (4 تريليونات يوان صيني) للانفاق على القطاعات العشرة في الصناعة والزراعة والإسكان والتكنولوجيا وفي البنية التحتية في الريف، وشبكات المياه والكهرباء والنقل والبيئة والابتكار الفني وعمليات إعادة التعمير بعد الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات.
ودعت الصين إلى انتهاج ما أطلقت عليه سياسة مالية «فعالة» وسياسة نقدية «نشطة بشكل معتدل» وبعبارة أخرى اعتمدت الصين في تعاملها مع الأزمة المالية العالمية، وما ترتب عليها من تراجع الطلب على السلع وانخفاض حجم تجارتها الخارجية وإغلاق عدد من المصانع التي خصص إنتاجها للتصدير على سياستين متكاملتين هما حفز الطلب وزيادة العرض. وحفز الطلب بزيادة الاستهلاك الداخلي فمعدل الاستهلاك الخاص في الصين 36.3 في المئة والاستهلاك الحكومي 13.7 في المئة أي أن إجمالي معدل الاستهلاك 50.1 في المئة في حين أنه في الولايات المتحدة يصل إلى 70 في المئة إذا هناك مجال كبير لزيادة الاستهلاك كمعدل ونسبة من الانتاج، ولكن الأهم أن السوق الصينية ضخمة والمواطن الصيني مازال فقيرا ومحدود الدخل، ومن ثم يمكن مضاعفة حجم الاستهلاك عدة مرات بزيادة دخل المواطن وتقديم التسهيلات الائتمانية إليه للإنفاق، وتوفير وتحسين مستوى الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم ومد شبكة الأمان الاجتماعي وهذا سيدفع المواطن الصيني إلى زيادة الإنفاق على الاستهلاك بدلا من اتجاهه الحالي للادخار تحسبا للمستقبل وتأمينا للخدمات المشار إليها (الصحة، التعليم، المعاش).
أما زيادة العرض فيكون بتخفيض سعر الفائدة على القروض ومن ثم زيادة الطلب عليها للاستثمار فضلا عن توفير مناخ ملائم لمزيد من اجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر. وانتهاج السياستين معا هو الكفيل دفع عملية النمو الصيني والحفاظ على المعدل المرتفع لهذا النمو على غرار ما حدث في السنوات الماضية.
كان رد فعل العالم الخارجي من أميركا وأوروبا وآسيا هو الترحيب بالحزمة الصينية للحوافز لتنشيط الطلب الداخلي لأن من شأن ذلك الحفاظ على نمو الصين وهو مصلحة صينية ومصلحة عالمية في آن واحد لأن اتساع السوق الصينية سيسمح باستهلاك سلع مستوردة من الخارج ومن ثم تنشيط الاقتصاد في أميركا وأوروبا.
محصلة ما سبق هو مزيد من الاندماج الاقتصادي الصيني في الاقتصاد العالمي وتبني فكر العولمة ولكن الصين حريصة على أمرين أولهما إن القرارات الدولية الخاصة بإدارة الاقتصاد وبناء مؤسساته الجديدة لابد أن تكون على أساس التشاور والتعاون. وثانيهما ان تنتهج الدول الرأسمالية سياسة مسئولة. بمعنى عدم إطلاق الحرية الاقتصادية الكاملة على رغم ان الدول الغربية عندما تواجه بأزمتها الداخلية تنسى هذا المفهوم ولعل في أحداث الكساد الكبير بين 1929 و1933 وفي تدخلات أميركا الآن لدعم المصارف المنهارة العام 2008 خير دلالة على ذلك.
والخلاصة ان الدور الصنيي في الاقتصاد العالمي في تزايد وان هذا سينعكس آجلا أو عاجلا على ثقلها ودورها السياسي ومواقف الدول الاخرى منها وبالذات من قضية تايوان.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2268 - الخميس 20 نوفمبر 2008م الموافق 21 ذي القعدة 1429هـ