العدد 2267 - الأربعاء 19 نوفمبر 2008م الموافق 20 ذي القعدة 1429هـ

رخيص جدا!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

لماذا يؤلف العظماء والمشاهير والكبار، بل وحتى البسطاء ومن هم في أسفل الهرم الاجتماعي وفي الجانب المظلم، سيرهم الذاتية ويدونوا مذكراتهم؟!

ولماذا يقبل الناس بكثرة للاطلاع عليها وتداولها وخصوصا في البلاد الغربية التي يزدهر فيها هذا النوع من الكتابة في اليوميات والمذكرات والسيرة الذاتية «Biography & memoir» بل وتعد الكتابة فيها وحولها ضربا من ضروب التخصص الأكاديمي والميدان الاحترافي الذي تقام حوله الورش والدورات المتخصصة؟!

إنهم ببساطة، أي مؤلفو هذه الكتب يعمدون إلى تدوين ذكراهم وسطور حياتهم الشخصية والمهنية والاجتماعية، كما لو أنهم يبتغون استخلاص شرف الخلود في المجتمع، وتأدية الأمانة الأولى في حقه ممثلة في نقل ونشر خلاصة رحيق التجربة والسيرة المتراكمة في مختلف ميادين ومجالات الحياة إلى عامة الناس، ونقلها من مجالها الخاص لتكون إرثا عاما ومشتركا للجميع على أن تضيف قدرا لا بأس به من الخبرة العملية والدراية المعرفية التأريخية ضمن أرصدة وذاكرة الفرد والمجتمع!

ومثل هذه الغايات والمرامي من وراء الكتابة في «المذكرات» و»السيرة الذاتية» و»الشهادة التاريخية» لم أخترعها من خيالي، وإنما هي الأعراف التي تعارف عليها عامة الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة حول أغراض تأليف السير الذاتية والإقبال عليها لأجل الإطلاع، فبالعودة مثلا إلى الأصل المفهومي الذي اشتق منه مصطلح سيرة ذاتية في اللغة الإنجليزية وهو «Biography» مثلا، فإننا سنجده بحسب موسوعة «ويكيبيديا» يتفرع من كلمتين إغريقيتين الأولى هي «bios» وتعني «حياة» و»graphein» هي تعني فعل الكتابة!

ويعلم الله كم ألححت كثيرا على العديد من الزملاء والأصدقاء الذين لعبوا دورا تاريخيا كبيرا وشهدوا حوادث مفصلية لا حصر لها ومع ذلك ظلوا خلف الكواليس، وتتعسر أمامهم الظروف للإدلاء بشهادتهم ومنهم على سبيل المثال الصحافي المخضرم علي صالح، وصادق الجمري ابن الراحل المناضل الشيخ عبدالأمير الجمري الذي رافق والده في مختلف محطاته، وشهد معه لقاءات وحوادث ومنعطفات تاريخية مصيرية ساهمت في صياغة المشهد الحالي، وهي قد تقدم صورة مغايرة لما اعتاد الناس على أن يتداولوه في مخيالهم أو يلقنوا إياه عن تلك الشخصيات والأحداث!

كما أن بين يدي الآن على سبيل المثال 3 كتب عن السيرة الذاتية ترصد تجارب متفاوتة ومختلفة ومهمة، والكتاب الأول مثلا هو «ALLEN DULLES :SPYMASTER» وهو من تأليف بيتر غروس الباحث في جامعة هارفارد الأميركية، ويروي السيرة الذاتية لآلان دلز وهو أول مدير مدني في تاريخ الاستخبارات المركزية الأميركية الـ (سي آي إيه)، ويرصد الدور البارز الذي قام به دلز في تاريخ الاستخبارات الأميركية تحت إمرة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور والرئيس الأميركي المغتال جون إف كينيدي، ويروي تلك الكيفية التي خصص بها دلز مجمل حياته لمهنة وتخصص الاستخبارات، وهو الذي لطالما عرف بـ «سيد الجواسيس»، أما الكتاب الثاني فهو «The SECRET LOFE OF A SATANIST» وهو من تأليف بلانش بارتون ويعرض السيرة الذاتية لأنتون زندور ليفي مؤسس كنيسة الشيطان في الولايات المتحدة الأميركية ويرصد خطوات تأسيس «كنيسة الشيطان» وإعادة إحياء «عبادة الشيطان» بصورة عصرية وذلك في ستينيات القرن الماضي في ولاية كاليفورنيا الأميركية وتصديرها لمختلف أنحاء العالم، وبالنسبة للكتاب الرابع فهو السيرة الذاتية ومذكرات الراحل الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) ويكشف عن سيرته في طلب العلم وفي مجال الدعوة.

ولكنني في الآونة الأخيرة وأمام فائض من الغثاء المحتوم أستنتج أن من بين الأسباب التي قد يلجأ إليها أي فرد من أجل تأليف كتاب سواء عن سيرته الذاتية أو عن «شهادته التاريخية» ربما يمكن أن يكون ذلك دلالة ونتيجة عن عدم وجود الرضا الوظيفي أو الاجتماعي، فهي تشف عن رغبته في الوصول السريع والتسلق نحو تحقيق مأرب أو جملة من المآرب المصلحية الانتهازية، كما هي تدل على حالة من عدم الرضا عن واقع ومستوى الحياة الوظيفية التي يعيشها المؤلف وبالتالي فالتأليف قد يكون بضرورة الحصول على وظيفة أفضل من بعد كسب رضا كبار المسئولين والوجهاء وعلية القوم في بلاد عادة ما يتبادل عاليها وسافلها المراكز والمواقع لغرض سلطوي لا يستطاع معه صبرا، ويكون فيها التقدم نحو سلم الارتقاء الوظيفي والمهني والاستشاري أشبه بالتقدم للتسجيل في عضوية الأندية والكازينوهات المغلقة، وليس بالضرورة يكون التأليف في السيرة الذاتية أو لتسجيل الشهادة التاريخية غرضا أمينا يهدف إلى نقل إرث الخبرة والتجربة إلى الجيل الحالي والأجيال القادمة.

وبالاطلاع على نماذج كثيرة ومختلفة شكلا ومتساوية مضمونا مقززا مما ينشر ويتداول حاليا من «سيرة ذاتية» و»شهادة تاريخية»، فإن المراقب لينتابه العجب العجاب تجاه الغاية من نشر نماذج لا يكاد أن تكون لها أدنى مصداقية أساسا أو أية إضافة شكلية أو حتى نوعية في ميدان التأليف، بل هي تقدم شهادات أفاكة ومزورة وصورا مخالفة للواقع وربما يكون صاحب الكتاب مجاهرا من وراء الكواليس بما يخالفها صورة واعتقادا.

فتجد هذا المتفاصح والمتفيهق في كتابه المزعوم لا يملك من حجة أو منطق سوى «منطق وكلام بوعقوف»، كما أن هذا النموذج المتسلق من المؤلف النكرة أساسا، الذي عبر الفضاء خلسة وألقى به سيل الزمن فوق فوهة فارغة من الفوهات الناتئة على صعيد الأشهاد، لا نخبر أن له أي سجل محفور على أرضيات أي ميادين نضال أو عمل اجتماعي أو سياسي أو أية خبرة مهنية معتبرة وراسخة أو أن يكون ثبت له قبلها اهتمام بالشأن العام كالذي سطره المناضل الوطني عبدالرحمن النعيمي شفاه الله، أو المناضل الوطني عبدالنبي العكري في المجال السياسي والحقوقي متنقلين كلاهما بين المنفى والوطن، كما أننا لا نفقه لهذا البعض من الشيء دورا ثقافيا واطلاعيا وتواصليا بارزا في المجتمع كالمفكر علي فخرو وغيره الكثير من أبناء هذه البلاد.

وإن كنا قد نفهم مثلا أن يقوم المناضل العروبي والشخصية الوطنية الكويتية البارز الدكتور أحمد الخطيب بتدوين مذكراته وشهادته في النشاط السياسي والعمل البرلماني المخضرم لعقود ورؤاه حول مسيرة الديمقراطية في الكويت على مدى عقود يرصد خلالها ملامح الصراع الوطني والسياسي بين المجتمع الكويتي وطبقة التجار التقليديين وطبقته الوسطى مع الدولة ووسطائها وصناعها، كما نفهم أن تقوم صحيفة «الجريدة» الكويتية بجرأة نادرة في تاريخ الصحافة العربية بنشر هذه المذكرات في جزئها الثاني مفجرة بذلك جدلا وطنيا واسعا وهو يظل جدلا صحيا لإعادة تدوين وقراءة التاريخ الكويتي والتأمل في مآل التجربة الديمقراطية الخليجية العريقة.

ولكننا لا ولن نفهم أبدا ما الفائدة التي سينالها القارئ المتعس حينما يطلع على ما روج له وما كتبه المتسلقون والانتهازيون الذين لم ولن يتوانوا عن تحريف وتزوير أبسط ملامح الوعي وتسمية الأشياء بغير مسمياتها على أمل أن ينالوا مآربهم المصلحية في النهاية على حساب شعب ووطن.

أذكر أنني ذات مرة وأثناء تسوقي في السوق الحرة بمطار دبي العالمي وقع ناظري على كتاب صادر باللغة الإنجليزية، ويتكون من نحو 250 صفحة عنوانه «الفكر السياسي للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش»، فما أن هممت بأخذه إلى منضدة الدفع وأنا أتفحصه، لأجد هذا الكتاب لا يحتوي من أول صفحة حتى آخرها إلا على أوراق ناصعة البياض وكأنما هي لا تعكس سوى الخواء والفراغ، فأرجعت الكتاب حينها وأدركت المغزى الساخر للكتاب والمؤلف الأميركي الذي احترمته على صراحته الفجة تلك كثيرا ولرؤيته الثاقبة المتفحصة في غباء بوش العميق، ولكنني كم تمنيت لو أن هؤلاء «البعض» ومروجيهم من المتسلقين والانتهازيين الذين يسعون لتدوين وخلق «السيرة الذاتية» و»الشهادة التاريخية» ولو من «الطل» أو العدم واللا شيء، لو أنهم يقتدون ويتأسون بهذا الكتاب وأسلوب مؤلفه، فينشرون سيرة فارغة وبيضاء وخاوية على حقيقتها بدلا من أن تكون محشية بالكذب والسخف عسى أن ينالوا حينها أقل الاحترام جزاء احترامهم لذاتهم وقدرها وما قدمت وأنجزت على الساحة، ومن ثم احترامهم للقارئ الواعي الذي قد لا يغرر به عبر نماذج مزيفة وأحداث مفبركة!

إننا ندعو أصحاب السلطة والنفوذ والوجاهة إلى أن يبادروا بتوظيف وترقية أو توزير وإبراز هذا «البعض» و»بؤس المؤلف» ليس رأفة به، وإنما رأفة بالشعب الذي مثلما شهد تزوير إرادته وحياته وحلمه السياسي الوطني من قبل، فهو موعود بتزوير وعيه وتاريخه، وربما تزوير الفوارق ما بين الأبيض والأسود والحق والباطل، وما بين «أب الشعب» و»عدو الشعب» طالما أن هنالك الكثير ممن لا يستحوا ويفعلوا ما يشاؤون ويسموا أنفسهم برسم «التطبيل» مؤلفون وشهودا على العصر المفترى عليه زورا!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2267 - الأربعاء 19 نوفمبر 2008م الموافق 20 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً