ما كشفته صحيفة زميلة يوم أمس عن 60 وثيقة تؤكد تأجير أراض للدولة بقيمة «فلس واحد» لبعضها هي حلقة (مؤلمة مضحكة) من سلسلة ممتدة من تلاعبات «بالهَبَل» أصبحت تثير أسئلة تلو الأخرى عن جدوى وجدية تقارير الرقابة المالية التي تتجاهل هذه السرقات الكبيرة الواضحة للعيان، في حين تكتفي بكشف مخالفات جزئية لا تكاد تقارن بما يجري في الخفاء، وننسى في غمرة الضجيج الإعلامي الذي يصاحبها ما تخبئه وراءها من «هوائل» محتاجة على الأقل إلى تفعيل قاعدة «درهم وقاية خير من قنطار علاج».
هذه الفضائح المالية تؤكد أننا مازلنا نتعامل بشكل خاطئ مع قضايا الفساد المالي والإداري، ونعالج مظاهره ونتائجه بعلاج ناقص، على رغم ما نقرأه من تصريحات جميلة تجعلنا نثق في وجود نوايا حسنة أحيانا تحرص على استئصال بؤر التلاعب والسرقات والوصول بالبحرين إلى مصاف الدول الاقل فسادا. فالمشكلة تكمن في التعامل مع خطوط حمر متشابكة، ما إن نحاول قطع رأس واحدة منها نجد أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بخطوط أخرى محظورة تجعلنا نتوقف عندها ونغلق الموضوع بأكمله، لأننا دخلنا إلى منطقة الخطر.
بهذه الطريقة لن تستطيع البحرين وضع الحصان أمام عربة التنمية، وستظل تراوح مكانها مهما بلغت من مراتب عالمية بفضل السياسات التجميلية. ليس لأنها لم تقض على الفساد ولكنها لم تعرف كيف تدير أو تحتوي عمليات الفساد المستعصية.
الشغف بالأراضي... والنهب الذكي
علينا أن نقر بأن هناك أنواعا من الفساد ليس في البحرين فحسب، أشبه ما تكون بالورم الخبيث، ولكن ما نعلمه أيضا أن التغاضي عن هذا الورم يقتل، أما النجاة فرهينة بمحاولة استئصاله أو احتوائه على الأقل. ولكي تتضح الصورة أكثر علينا أن نستشهد بنماذج من التلاعب والفساد في بعض الدول القريبة؛ فحركة النهب هناك قائمة على ديناميكية ذكية تعطي للمواطن اعتباره ليس حبا فيه بقدر ما هو اعتبار لدفع الضرر. كيف؟
تقوم عمليات الاستحواذ على الأراضي هناك مثلا في سياق تخطيط مبرمج، بحيث لا يتعارض مع مخططات عامة تخص الشعب أو المستثمرين قدر الإمكان. فبإمكان المتنفذ الفلاني أن «يكوّش» على هذه الأرض أو تلك إن لم تكن تتعارض مع مخطط سكني أو مشروع استثماري متعلق بالأهالي. لأن تحقيق القدر الكافي من احتياجات المواطنين السكنية والتجارية يجعلهم يغضون الطرف عن بقية الأراضي، وعما إذا استحوذ عليها فلان أم علّان. فما يهمهم هو الحصول على نصيبهم. وبهذه الطريقة تضمن الدولة كسب ود شعبها وعدم احتقان الأوضاع وتوالي الاعتصامات والاحتجاجات، وفي المقابل يكون «عشّاق» الأراضي في منأى عن المحاسبة ينعمون فيما يظفرون به.
هذا النمط من «النهب الذكي» بدأت تلجأ إليه بعض الدول التي يستعصي عليها وأد الفساد كاملا لأسباب جذرية شبيهة بما يحدث في مملكتنا. وهذا التحليل ليس تبريرا لموجات النهب المستشرية في واقعنا، وإنما لقناعة باتت تؤكد أن المواطن البحريني سيكون مضطرا للقبول بهذا النوع من عمليات «محاصصة الأراضي» على الأقل لضمان حصته من السكن التي تؤويه، هذا إذا حصل.
لا جدوى للرقابة إلا بتجفيف المنابع
تُعرف عملية التجفيف في العلوم بأنها واحدة من أفضل طرق حفظ الأغذية، وذلك عبر تقليل محتوى الماء من الغذاء، ليستحيل نمو وتكاثر الكائنات الحية المسببة لفساد الغذاء. والقاعدة العلمية تقول مثلا إنه بخفض النشاط المائي إلى نحو 6 في المئة من أي غذاء يتوقف نشاط الأحياء الدقيقة المسببة لتلف ذلك النوع من الغذاء. وبتحوير هذه القاعدة ونسجها في قالب مشروع نظامي سنجد أننا بحاجة إلى عمليات تجفيف لمنابع الفساد (المالي والإداري) قبل الرقابة من أجل حفظ الحركة الإصلاحية من الفساد.
وكما أن عمليات التجفيف تطورت في العقود الأخيرة، إذ يتم تجميد الغذاء أولا ثم يجفف ليتحول الثلج داخل الغذاء إلى بخار ماء مباشرة دون المرور بالحالة السائلة فيكون غذاء مجففا، فكذلك حال الفساد ونهب الأراضي لدينا ربما تحتاج مكافحته إلى «تجميد» سلطات وممتلكات بعض المتنفذين، من أجل وضع اليد على ما يمكن انتشاله.
وإذا كان تطوير عمل الرقابة لا يحتاج إلى هيئة في نظر الحكومة، وبالإمكان إدماجه في إطار ديوان الرقابة ذي الصلاحيات المحدودة، فإن إيجاد مجلس مختص بتجفيف منابع الفساد أولا واستنقاذ ما يمكن استنقاذه ووقف التلاعبات في أسعار أراضي الدولة أصبح ضرورة وقضية لا تحتمل التأجيل، إذا كانت الحكومة جادة وصادقة في تصريحاتها المستمرة بحرصها على حفظ المال العام وإعطاء المواطنين الأولوية في المشاريع التي «ما شاف منها إلا النور».
سنبقى نأمل في أساليب واقعية للوقاية من النهب والتلاعب ضمن نظرة علمية متكاملة كفيلة بمنع حصول الفساد أو حتى التفكير فيه، عبر تفعيل رقابتين سابقة ولاحقة لا تقف عند خطوط حمر، في إطار رؤية البحرين الاقتصادية «2030»
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2265 - الإثنين 17 نوفمبر 2008م الموافق 18 ذي القعدة 1429هـ