قد يبدو من المهم جدا قبل أن نشرع في استعراض الشواهد على طبيعة الاستراتيجية المتبعة من قبل الولايات المتحدة الأميركية في القرن الحادي والعشرين أن نقدم إطارا عاما لهذه الاستراتيجية يختزل أهم معالمها، ويكشف عن خصوصياتها، والذي يمكن قوله بهذا الصدد انه ستتحدد أو بالأحرى تحددت أولويات السياسة الأميركية في هذا القرن ضمن الاستراتيجيات الآتية:
السيطرة على مصادر أسلحة الدمار الشامل (مصادر التفوق العسكري).
السيطرة المباشرة على مصادر الثروات النفطية والمائية.
تغيير النظام القيمي لبقية دول العالم وعولمة النظام القيمي الأميركي.
وهكذا تتلخص السياسة الأميركية في القرن الحادي والعشرين في محاولة الاستحواذ المطلق على: السلطة والثروة والقيم.
وانطلاقا من ذلك ستتحرك الولايات المتحدة في العالم باتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول: إنشاء أنظمة سياسية موالية لأميركا، بل هي صناعة أميركية كاملة.
الاتجاه الثاني: إنشاء أنظمة اقتصادية يتكامل دورها ويتواصل مع دور وأهداف السوق الأميركية وسياسات الشركة الاقتصادية الكبرى.
الاتجاه الثالث: إنشاء أنظمة قيمية ومعرفية تستلهم النموذج الأميركي وتروج له بوصفه النموذج الإنساني الأكمل والأمثل.
وفي ضوء ذلك تحلم أميركا بأن تأخذ على عاتقها مهمة تحقيق الجنة الأرضية التي يتمتع فيها كل الناس بالقدرة والثروة والمعرفة، وهي العناصر الأهم التي لا يتحقق الكمال الإنساني إلا من خلال الجمع بينها؛ ومن هنا ستضطر أميركا من أجل فرض نموذجها الموعود إلى الإمعان في استخدام:
القوة لفرض السيطرة.
المال لاستجلاب الرغبات.
ادعاءات التفوق الأخلاقي والمعرفي لتحقيق الهيمنة النفسية والعقلية.
هذا هو الإطار العام للاستراتيجية الأميركية في هذا القرن، الذي سيفرض على أميركا خوض ثلاثة حروب:
الأولى: حرب السيطرة على القوة.
الثانية: حرب السيطرة على الثروة.
الثالثة: حرب السيطرة على المعرفة.
وبعد تفهم هذه الاستراتيجية يجب علينا بيان الشواهد والدلائل التي تفصح عن هذه الاستراتيجية والتعرف على الدوافع التي تكمن وراءها، وهذا ما سنقوم به عبر التذكير بالنقاط الآتية:
سيطرة القطب الواحد: من أهم الاستراتيجيات التي ستعتمدها بل اعتمدتها فعلا الولايات المتحدة الأميركية في القرن الحادي والعشرين الذي نعيش بداياته مبدأ «استقرار عالم القطب الواحد»، فأميركا دخلت القرن الحادي والعشرين قوة مهيمنة وحيدة بعد انتهاء الحرب الباردة، وزوال القطب المقابل الذي تمثل في اتحاد الجمهوريات السوفياتية، وتقوم هذه السياسة الأميركية القديمة الجديدة على منع ظهور وبروز ثنائية قطبية مرة أخرى بأي شكل من الأشكال، وتبدو هذه السياسة أبرز معلم من معالم الاستراتيجية الأميركية في هذا القرن، وقد تحولت فكرة «عالم القطب الواحد» إلى مبدأ من مبادئ السياسة الأميركية بشكل حاسم بعد انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي في العام 1989، فقد «أحدث انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر تغير في العلاقات بين قوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فبسقوط موسكو الهائل من مرتبة القوى العظمى زالت بنية القطبية الثنائية التي ظلت تشكل السياسات الأمنية للقوى الكبرى لفترة تناهز النصف قرن، وبرزت الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة التي استطاعت الصمود». (وليم وولفورث: استقرار عالم القطب الواحد، ص 7).
عودة أحلام الامبراطورية: لم يكن الحلم بأن تصبح الولايات المتحدة الأميركية امبراطورية لا تغيب عنها الشمس حلما جديدا، بل نستطيع القول إنه حلم سمحت كل القيادات السياسية الأميركية لنفسها أن تحلم به، وقد قدّم الساسة الأميركيون تجربتهم التاريخية على أساس انها التجربة الأفضل والأكمل في تاريخ البشرية، وقد تحدث الرئيس الأميركي «توماس جيفرسون» عن دستور الولايات المتحدة بوصفه الدستور الصالح لتشكيل امبراطورية عالمية، إذ يقول: «مقتنع أنا بعدم وجود أي دستور سبق له أن درس بعمق وفصّل بشكل جيد مثل دستورنا ليكون صالحا لامبراطورية واسعة للحكم الذاتي». (مايكل هاردت وانطونيو نيغري: الامبراطورية... امبراطورية العولمة الجديدة، ص 242).
وعن سبب ظهور هذه الامبراطورية الجديدة في عصر الديمقراطية والحريات والحداثة يقرر كاتبا الامبراطورية انه: «لا يأتي الانتقال إلى الامبراطورية الجديدة إلا من غسق احتضار السيادة الحديثة. فعلى النقيض من الامبريالية، لا تقوم الامبراطورية بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لا تعتمد على أية حدود أو حواجز ثابتة. إنها أداة حكم لا مركزية ولا إقليمية دائبة، تدريجيا، على احتضان العالم كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة». (المصدر نفسه، ص 13).
تشابك متطلبات السيطرة: لم يكن ليخفى على أميركا وهي تريد تشكيل امبراطورية في مطلع القرن الحادي والعشرين أن السيطرة لا يمكن أن تكون من خلال احتكار الوسائل العسكرية والاقتصادية فحسب، بل لابد ان تشمل كل مفاصل الحياة البشرية، ومن أجل ذلك بنت أميركا استراتيجيتها الجديدة للسيطرة على العالم على مبدأ احتكار القوة والاقتصاد والمعرفة، وهو الأمر الذي يوضحه «ميشال بوغنون ـ موردان» في كتابه عن «أميركا التوتاليتارية»، إذ يقول: «لطالما اعتبرت الولايات المتحدة أن من الجوهري امتلاك ثلاثة احتكارات.
الأول: هو احتكار القوة المسلحة، الذي اكتسبته من خلال «الحلف الأطلسي» وقبعات الأمم المتحدة الزرقاء، وبيع الأسلحة، والنار النووية بالنسبة إلى الشطر الغربي (باستثناء فرنسا وحدها).
الثاني: هو احتكار الاقتصاد. وقد كان جزئيا فعلا منذ «معاهدات برتون وودز» العام 1944، حين كان المعيار النقدي العالمي ـ ولايزال ـ هو العملة الوطنية الأميركية (الدولار)؛ وحين خضع النظام العالمي، الناشئ من تلك المعاهدات، لتقلبات السوق ـ التي تستطيع الولايات المتحدة التأثير فيها ـ ومن النتائج الاقتصادية الأميركية، والذي أفضى إلى قيام مؤسسات دولية (صندوق النقد الدولي، المصرف الدولي) في خدمة مصالح الولايات المتحدة ومجموعات المصالح على الصعيد العالمي...
الثالث: هو بلا ريب الاحتكار الأدهى في المدى المنظور، لأنه توتاليتاري بجوهره، نعني احتكار وسائل الاتصال الجماهيري...». (ميشال بوغنون ـ موردان: أميركا التوتاليتارية، ص 177 ـ 178).
العولمة واستباحة الخصوصيات: انطلقت «العولمة» باعتبارها مفهوما ضبابيا غائما تستهدف أميركا من خلال تعويمه وتعميمه السماح لنفسها بالتدخل في خصوصيات الآخر، والذي هو هنا كل أحد سوى أميركا نفسها، وهذا التدخل لن يستهدف الخصوصيات الثقافية أو الاجتماعية فحسب، بل من المسموح له أن يطول كل الخصوصيات، وأن يعيد تشكيل الهوية كما يعيد تشكيل الاقتصاد، وكما يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية لأية منطقة في العالم، ولأجل ذلك من الخطأ تصور العولمة بوصفها مجرد مفهوم يهدد الثقافات فحسب، بل هو يريد أن يبتلع ويلغي كل التمايزات عن النموذج الأميركي الذي تستهدف العوملة تسويقه والترويج له، وفي ضوء ذلك ذهب بعض الباحثين إلى تحديد ثمانية أبعاد للعولمة:
العولمة المالية: وتصف السوق العالمية الآنية للنتاجات المالية المتعامل بها في «المدن المالية» عبر العالم على مدى أربع وعشرين ساعة يوميا.
العولمة التكنولوجية: وتصف المجموعة المترابطة من تكنولوجيات الكمبيوتر والاتصالات وعمليات ربطها بالأقمار الصناعية التي نجم عنها «انضغاط الزمان/المكان»، والانتقال الفوري للمعلومات عبر العالم.
العولمة الاقتصادية: وتصف نظم الإنتاج المتكامل الجديدة التي تمكن «الشركات الكونية» من استغلال المال عبر العالم على اتساعه.
العولمة الثقافية: وتشير إلى استهلاك «النتاجات الكونية» عبر العالم، وتعني ضمنا في أكثر الأحيان التأثير المهيمن كما في تعبير «الكوكبة» Cocacolaization و«عالم ماك» Mc World.
العولمة السياسية: التي سلطنا عليها الضوء فيما سبق، وتمثل انتشار الأجندة «الليبرالية الجديدة» المؤيدة لخفض إنفاق الدولة، والتحرير التشريعي، والخصخصة، و«الاقتصادات المفتوحة» عموما.
العولمة البيئية: وهي الخشية من أن تتجاوز الاتجاهات الاجتماعية الراهنة قدرة كوكب الأرض على البقاء بوصفه كوكبا حيا، وهي تطمح إلى أن تصبح «عولمة سياسية خضراء».
العولمة الجغرافية: وتتعلق بإعادة تنظيم الحيز أو المساحة في الكوكب بإحلال الممارسات المتعدية للدولة القومية محل الممارسات «الدولية» في عالم تذوب فيه الفواصل الحدودية بصورة متزايدة، عالم سينظر إليه في غالبية الأحيان على أنه شبكة من «المدن العالمية».
العولمة السوسيولوجية: هي ذلك الخيال الجديد الذي يستشرف ظهور «مجتمع عالمي» واحد، أو «كل» اجتماعي مترابط يتجاوز حدود المجتمعات القومية. (بيتر تيلور وكولن فلنت: الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، ص 19 ـ 20)
إقرأ أيضا لـ "سيد كامل الهاشمي"العدد 226 - السبت 19 أبريل 2003م الموافق 16 صفر 1424هـ