جدلية الكون تقول، ومنطق التطور يؤكد أن ليس هناك ما هو شر بالمطلق أو خير صرف، وبالتالي فكل ما يمر به المجتمع الإنساني من أحداث إنما هو مزيج متكامل من كليهما. وليس القصد من ذلك هو أننا نتمنى أن يبتلى العالم بالشر لأنه، أي ذلك الشر، لابد أن يكون مكتنفا بالخير، بقدر ما نحاول أن نشير إلى علاقة التوأمة التي تحكمهم. ولو أخذنا «الأزمة المالية» الأخيرة التي صدرها الاقتصاد الأميركي للكثير من بلدان العالم، كمثال على ذلك، فسنكتشف أن أحد عناصر الخير التي حملتها معها كان اضطرار الغرب، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة، أن يكتشف، وبالواقع الملموس، مدى حاجة دول الشمال إلى بلدان الجنوب، أو بالأحرى حاجة العالم إلى علاقات دولية متكافئة تقوم على تعاون اقتصادي عادل.
هذه الحاجة تختلف اليوم عن تلك التقليدية السائدة التي لم تكن تتجاوز وضع الجنوب في خانة الدول الخاملة الاستاتيكية التي تسيِّر موادها الخام عجلة الصناعة في بلدان الشمال، وبالقدر ذاته تتلقى أسواقها مرغمة، وبأغلى الأثمان ما تقذف به تلك الصناعة من منتجات فاضت احتياجات بلدان الشمال الداخلية.
هذه المعادلة المقلوبة، جاءت الأزمة المالية الأخيرة كي تعيد حكام بلدان الشمال، وعلى نحو أبطأ الولايات المتحدة، إلى صوابهم وترغمهم على إعادة النظر في مفاهيمهم تجاه بلدان الجنوب، من دون أن ندعي أنها وصلت إلى درجة التخلي، عن طبيعة وأسس العلاقات القائمة بينهما. هذا الشعور بالحاجة الممزوج بإحساس بضرورة البدء بعلاقة قائمة على التكامل وتبادل المصالح، بدلا من الاستغلال والنهب يمكنها أن تتطور نحو الأفضل إذا توافرت لها مجموعة من عناصر النجاح من بين أهمها:
استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية في الغرب إلى المستوى الذي تقتنع فيه المؤسسات التي ترسم المرتكزات النظرية لذلك الاقتصاد، وتحدد معالم هياكله، وتحدد من ثم آليات اكتمال دورة رأس ماله، بأن ما يعانيه ذلك الاقتصاد ليس أزمات هامشية محدودة يمكن تجاوزها بالمهدئات أو الحلول قصيرة المدى، بقدر ما هي أزمة بنيوية تعصف بالأعمدة التي يرتكز عليها البناء الاقتصادي الرأس مالي مهددة بانهيارها إن لم يتدارك الغرب نفسه بالبحث عن حلول، هي الأخرى بنيوية استراتيجية تتناول الأزمة من جذورها.
ولا ينبغي أن نستثني من ذلك سيناريو الانهيار في حال استمرار تلك المؤسسات في تعنتها وعنجهيتها التي ترفض القبول بشيخوخة قوانين الاقتصاد الرأسمالي، وحاجتها إلى إعادة تجديد راديكالية تنطلق من المركز بدلا من الأطراف. ونرجو ألا يساء فهم ذلك، بالقفز إلى استناج ساذج تبسيطي يقوم على حل يستبدل، وبشكل أوتوماتيكي «الرأسمالية الكهلة المنهارة»، بـ «الاشتراكية المتجددة القابلة للتطور».
بروز اقتصادات من بين دول الجنوب من أمثال الهند والصين، والتي أصبحت تصنف على أنها الأسواق الناشئة (Emerging Markets) على استخلاص دروس من واقع الأسواق التي عصفت بها الأزمة وتلك التي، ساعدتها الطبيعة البنيوية لآليات عمل اقتصاداتها على تحجيم تأثيرات تلك الأزمة على الأوضاع الاقتصادية فيها إلى الحدود الدنيا، للخروج بإطار نظري يؤسس لقوانين اقتصادية، لا يستبعد استخدامها للقوانين الرأسمالية بشكل مبدع خلاق، تضع الأمور في نصابها، وترجع لدول الجنوب مكانتها التي جردتها منها دول الشمال في مرحلة نهوض برجوازيتها التي أفرزتها الثورة الصناعية.
توصل الطرفين: الشمال والجنوب، بحاجتهما التكاملية، وليس الاستغلالية غير المتكافئة، لبعضهما البعض، على نحو جماعي ككتل، أو إفرادي كدول مستقلة قائمة بذاتها. محصلة ذلك المنطق وأد النظرة الاستعلائية من طرف دول الشمال، أو حتى الدونية التي لاتزال تسيطر على أذهان بعض دول الجنوب، والتي تسير العلاقات القائمة بينهما.
ولمن يرغب في المزيد من الاطلاع على المسالك التي ينحو باتجاهها الاقتصاد العالمي حاملا معه أزمته البنيوية التي فجرتها الأزمة الأميركية، العودة إلى الترجمة العربية الصادرة عن سلسلة «عالم المعرفة» في العام 1998 والتي حملت عنوان «فخ العولمة»، من تأليف الكاتبين: هانس بيتر مارتن وهارالد شومان وترجمة عدنان عباس علي.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2259 - الثلثاء 11 نوفمبر 2008م الموافق 12 ذي القعدة 1429هـ