العدد 2259 - الثلثاء 11 نوفمبر 2008م الموافق 12 ذي القعدة 1429هـ

من الأمراض المحمودة... العود

قاهر منديل comments [at] alwasatnews.com

أكاديمي بحريني

لرائحة العود الزكية وقع مميز على النفس البشرية يعجز اللسان عن وصفها لما تتركه من أثر ناتج من بلاسم العود العطرية النفاذة. وقد اشتهرت المنطقة العربية منذ القدم باستخدام العود والتعطر ونسجت حوله تقاليدَ وقيما ومعانيَ أصبحت مع مرور الوقت جزءا من التراث، وعنوانا للكرم العربي الأصيل، يتجلى في المبالغة في استخدامه من قبل البيوتات الميسورة وخاصة في شهر رمضان الفضيل والأعياد والعديد من المناسبات. ويعتبر حرق العود لتعطير الأمكنة والثياب واحدا من أهم التقاليد المعروفة بدول الخليج العربية خاصة. وقديما استخدمه قدماء المصريين في حفظ وتعطير موتاهم.

ولقِطع العود الخشبية المعتقة من الصنف الممتاز أثمان باهظة تضاهي أثمان الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة كالذهب والماس. والحال كذلك بالنسبة لمشتقاته.

وقد بلغت مبيعات دول الخليج من العود ومشتقاته قرابة 660 مليون دولار في العام الماضي. وقد تصدرت المدن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة مركز الصدارة، تلتها مدينة الرياض ودبي، بينما جاءت بعض مدن دول الخليج الأخرى في منزلة لاحقة. ولا يقتصر استهلاك العود على الدول العربية، بل إن دولا أخرى مثل اليابان وبعض دول شرق آسيا كتايلند وكوريا تستخدم العود في طقوسها الدينية وفي معابدها وتستهللك منه الكثير.

ويعتبر العود من أهم السلع الثانوية مثل صناعة العطور والماكياج والتي تتراوح فيه الجودة من العالية إلى الدانية، بالإضافة إلى دخول مشتقات جديدة أصبحت رئيسية في العطور الشرقية كالورد الطائفي والعنبر والمسك، ما جعل الطلب عليها كبيرا من قبل المستهلكين.

وتستخرج قطع العود الخشبية من أشجار تجاوز عمرها 60 عاما، وتتصف عملية الاستخراج بالصعوبة وتستغرق الكثير من الجهد والوقت والصبر، ما يسبب ارتفاع سعره.

وأشجار العود هي من الأشجار المعمرة الدائمة الخضرة والتي قد يصل ارتفاعها إلى أكثر من عشرين مترا. وتستوطن هذه الأشجار الغابات الممطرة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية على سفوح الجبال المنخفضة من بعض دول جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا وتايلند وكمبوديا وفيتنام وماليزيا وشمال الهند. وتنتمي هذه الأشجار لصنف معروف من الأشجار العملاقة يعرف باسم الاكويلاريا، وهو على أنواع لكن يقتصر إنتاج العود على بعضها فقط.

وقد لا يعلم الكثيرون أن العود هو نتاج تداخل بين كائنات حية هي الفطريات وأشجار الاكويلاريا، مثله مثل العسل الناتج طبيعيا من تغذية النحل على رحيق الأزهار، ولكن مع الفارق. فأثناء تعرض أشجار الاكويلاريا لجروح طبيعية مثل تكسر الأغصان أو حدوث أضرار عند مهاجمة الحشرات تسنح الفرصة لدخول بعض الفطريات عبر الجروح، وتكون مستعمرات دائمة تترعرع بداخل خلايا الشجرة مكونة غزلا فطريا غزيرا. عندها تقوم الفطريات بمهاجمة أنسجة النبات، وخصوصا الأنسجة المسماة بالغربالية الغنية بنواتج التمثيل الضوئي مستخدمة الأنزيمات المحللة والضغط الميكانيكي محدثة أضرارا جسيمة في قلب الخشب الأبيض داخل الشجرة.

أمام هذا الهجوم لا تقف الشجرة مكتوفة الأيدي، بل تدافع عن نفسها مستخدمة كل الوسائل المتاحة ومن ضمنها إفراز مواد راتنجية وصمغية وعضوية وزيوت عطرية طيارة من قنوات إفرازية متخصصة في داخل اللحاء والخشب بهدف إيقاف زحف الفطريات الغازية من الوصول إلى قلب الشجرة.

وقد تستمر هذه المعركة الصامتة ببطء لسنوات عديدة قد تبلغ الخمسين أو الستين عاما، ويتخلف عن هذه المعركة كتلة صماء ثقيلة القوام ذات رائحة زكية هي العود الذي يستخرج فيما بعد من داخل الشجرة العملاقة.

فالعود ما هو إلا إفرازات دفاعية متخصصة يتم تكوينها والاحتفاظ بها عشرات السنين داخل الأشجار. وكلما كان الهجوم الفطري أعنف وتؤازره الظروف البيئية كانت الإفرازات الصمغية العطرية أنفس وأجود وتباع بأغلى الأثمان حول العالم.

وغالبا ما تتجمع الإفرازات الصمغية في جذوع الأشجار المعمرة إلا أنه يمكن أيضا للجذور عندما تتعرض للإصابة الفطرية بأن تفرز تلك الإفرازات العطرية الطيارة العبقة إلى الخارج. وبالرغم من أن الإفرازات المتكونة تعتبر سامة بالنسبة للفطريات، إلا أن الفطريات لا تألوا جهدا في السعي لمهاجمة أماكن حديثة من قلب الشجرة وهكذا دواليك.

ويعتبر فطر الفيلوفورا وهو من الفطريات الأسكية (الجرابية) المسبب الرئيسي للإصابة وهي إصابة ممرضة بالنسبة للنبات، ولكن المرض في هذه الحالة محمود بالنسبة للإنسان، فهو ذو عائد تجاري مرتفع، نظرا لطبيعة تكوينه البطيئة جدا خضوعا لنهج الطبيعة. أما مصير الأشجار المحتوم نتيجة الإصابة فهو الموت. وعند موت الأشجار وسقوطها تكون غاية جامعي قطع العود الخشبة في أوجها، إذ يؤدي ذلك إلى توقف الإفرازات الصمغية وتعتقها وبالتالي إلى ارتفاع جودتها.

ووجد أن في الغابات التي تكثر فيها أشجار الأكويلاريا أن 7 في المئة منها يصاب بفطر الفيلوفورا، وهي ذاتها التي تنتج أصماغا وزيوتا عطرية ذات جودة عالية (عود درجة أولى). أما عندما يلجأ الإنسان لمحاكاة الطبيعة ويقوم بجرح الأشجار السليمة وتعريضها للإصابة بالفطر يدويا فإن العود الناتج (أي الأصماغ والمركبات العطرية) يكون منخفض الجودة ويباع بأسعار أقل. وغالبا ما تؤدي هذه الطريقة إلى موت الأشجار سريعا، ولا ينصح بها خبراء الإحراج.

يذكر أن معظم الإفرازات النباتية، مثل الصمغ العربي واللبان والمطاط والمركبات العضوية الأخرى والتي تفرز خارج النبات بعد تجريحه، مهمة ومفيدة جدا للإنسان. ويقول العرب: «ما بعد العود قعود» إعلانا وتعبيرا عن انتهاء الجلسة، ولكني أختم بما قاله الإمام الشافعي في العود عندما قال: «كعود زاده الإحراق طيبا».

إقرأ أيضا لـ "قاهر منديل"

العدد 2259 - الثلثاء 11 نوفمبر 2008م الموافق 12 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً