كان حديثا شيّقا لم تنقصه الصراحة، ذلك الذي دار بين الصحافيين والوكيل المساعد لشئون الصحافة والإعلام الخارجي الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة قبل عدة أشهر، على هامش ختام دورة «فن المقابلات الصحافية». فبينما كان الصحافيون يشيدون بجهود الوكيل في تعزيز الاحتراف الصحافي للبحرينيين، قال معقبا: «نحن مهتمون بتطوير الإعلام البحريني، ولكن عتبنا على الإخوة الذين يلجأون للإعلام في الخارج لينتقدوا الأوضاع في البحرين»، ملقيا اللوم على بعض الشخصيات التي تلجأ لقنوات غير بحرينية مثل قناة «الحرة» (أميركية الدعم) وغيرها للحديث عن شئون البحرين الداخلية.
أتذكر أنني خاطبت الوكيل حينها مثمّنا له صراحته وحرصه على احتضان الإعلاميين البحرينيين، وقلت مستدركا: سعادة الوكيل، ألا ترى أن قليلا من الانفتاح وإتاحة الحرية وإن كانت محدودة في برنامج أو اثنين في تلفزيون البحرين استطاع أن يحتوي عشرات الأصوات الناقدة للأوضاع في البلد، بدلا من لجوئها للخارج؟ فطبيعي أن زيادة مساحة الحرية الكلامية في الفضائية البحرينية وغيرها من القنوات الإعلامية في المملكة ستكون كفيلة باحتضان عدد أكبر من الأصوات المعارضة. وبإجابة دبلوماسية أومأ لي الوكيل، قائلا: «أنا مهمتي الاهتمام بالإعلام الخارجي وشئون الصحافة». وهي إشارة صريحة وجميلة إلى ما هو أوسع مما في اليد.
سواء اتفقنا أم لا على كون التضييق الإعلامي مبررا للجوء إلى الخارج، فإن الأمر في غاية الواقعية ما دام في إطار الحرص على الوطن واجترار الحقوق المعلّقة، هذا على المستوى الإعلامي، فما بالك ببقية الأصعدة التي تتعلق بالجوانب الحقوقية المرتبطة بمعيشة الناس، إذا كانت الأبواب موصدة في وجه المطالبين بها؟
محرّضون أم طلاب أمن؟
التجربة الواقعية تقول إن العملية الإصلاحية (التي بدت مفتوحة ومشجعة في بادئ الأمر) استطاعت أن تحتوي عشرات الوجوه المعارضة التي رجعت إلى البحرين وانخرطت في العمل السياسي والاجتماعي وتسنم بعضها مراكز وزارية، في حين كانت صوتا ناطقا في الخارج مهمته إيصال ما لا يستطيع من في الداخل إيصاله إلى الدول الصديقة. وأدركنا في النهاية وعلى رغم الكتابات التخوينية التي كانت تنطلق حينها، أن هؤلاء الفتية ما لجأوا للخارج استقواء وتحريضا لقلب نظام أو لزعزعة أمن، وإنما كانوا يبحثون عن نقاط الضوء ومكامن الأمل في عصر كان مظلما بإجراءات أمن الدولة الصارمة، علهم يحققون بعض ما عجز عنه أقرانهم في الداخل من مطالب حقوقية هي أدنى ما يطلبه شعب من شعوب الدول النامية.
النواب والشوريون الذين أخذتهم الحميّة على المنصب وراحوا يقذفون من تحدثوا في الخارج عن المطالب الحقوقية بأشنع الصفات ويطالبون بمحاسبتهم، يتذكرون جيدا ماذا كانت تعمل عشرات الوجوه التي تتسنم مناصب كبيرة وفاعلة في المملكة حاليا. ويعرفون أن أمثال هؤلاء كانوا قبل أقل من 10 أعوام يذرعون الأرض جيئة وذهابا مطالبة بحقوق الناس الذين كان نوابنا وشوريونا «الأبطال المنافحون عن الوطن» سارحين عنهم وعن معاناتهم بعيدا، ففي الوقت الذي كانوا الأقرب إلى الناس مكانيا إلا أنهم كانوا غائبين بأرواحهم ومشغولين بمصالحهم وبالتصفيق والتهليل لإنجازات لم يذق فقراء الوطن منها شيئا.
كلها نتائج التجاهل
الحريصون على ذكر الإيجابيات محقّون، ولكن ليس من حقّهم إخراج المنتقدين من شرعة الدين وظلال الوطن واتهامهم بالولاءات الخارجية. وليس من حقهم أن يجبرون الناس على تجاهل النواقص التي تعرقل المسيرة التنموية وتجعلها مسيرة عرجاء، إذا وقفت وتزينت صفّق لها العالم، وإذا مشت بانت عيوبها. ثم لنسأل أنفسنا: لماذا خلت الأعوام الأولى لتدشين المشروع الإصلاحي من أية أصوات ناقدة في الخارج؟ ولماذا في هذه السنوات بالذات بدأت تتصاعد وتيرة الأصوات المناهضة حتى وصلت إلى فناء «الكونغرس الأميركي»؟ ولماذا الآن فقط فكرنا في ضرورة وضع إستراتيجية مستقبلية وجعل المواطن «أولا» في إقرار ضمني بتجاهله ردحا من الزمن (ومازال)؟
العقل والمنطق يراهنان على أن غلق أبواب الحوار منذ أكثر من ستة أعوام، وتجاهل الملفات الحقوقية الواضحة كوضوح الشمس، كفيلان بإجبار المنافحين الحقوقيين على اللجوء إلى منافذ أخرى، كما أن إحراج شريحة كبيرة تحملت الانشقاق عن أعمدة رئيسية فيها من أجل أن تشارك في العملية الانتخابية واستغفال الأيدي التي امتدت إلى الحكومة من أجل إنجاح تجربتها على رغم يقينها بشلليتها كفيلان أيضا بتشجيع المزيد من الانسحابات الدراماتيكية من العملية السياسية وطرق أبواب أخرى يرونها أكثر تأثيرا واستجلابا للحقوق.
ليس تشجيعا على هذا النمط من العمل (السلمي)، ولكن تحذيرا من تفاقمه في وضع تقوده التطبيلات الإعلامية في حين لا يجد المواطن إلا بحارا تدفن وعشرات الأراضي تنهب في وضح النهار، بينما هو غارق في بحر الفقر والحرمان.
حاوروهم وحققوا شيئا مما يطالبون به وسترون إن لجأوا إلى غيركم
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2258 - الإثنين 10 نوفمبر 2008م الموافق 11 ذي القعدة 1429هـ