تطالعنا الصحف المحلية يوميا بسيل من الاقتراحات الصادرة عن مصادر صنع القرار في المملكة من دوائر حكومية ومؤسسات تشريعية، شورى كانت أم مجلس نواب. يترافق ذلك مع اجتهادات مؤسسسات المجتمع المدني، سياسية كانت أم مهنية، تهدف لإبداء الرأي في هذه المشكلة أو تلك، والحديث عن هذه القضية أو تلك.
هذه الظاهرة، أي ظاهرة «الاجتهاد»، ومحاولة كل طرف أن يدلو بدلوه، تعبر عن حالة صحية يعيشها مجتمع ديناميكي، مثل المجتمع البحريني، يمر بمرحلة انتقالية من تلك التي عاشها أيام قانون أمن الدولة سيئ الصيت، إلى مرحلة الميثاق والانفتاح السياسي التي نعيشها اليوم. بل ربما يجوز لنا القول إنها مرحلة ضرورية مرت بها، ولا يمكن أن تتجاوزها أو تقفز من فوقها المجتمعات الإنسانية الراغبة من الانعتاق من مجتمعات الرق والاستعباد ومصادرة الحريات إلى مجتمع المؤسسات المدنية، بكل ما يعنيه ذلك من استقلالية القضاء، وورحابة هامش الحريات الفردية، والعمل بقوانين المجتمع الليبرالي، بما فيها قوانين السوق الحرة.
لكننا لابد لنا من التوقف المسئول أمام ظاهرة خطيرة، ترافق، أحيانا، عملية التحول التي تحدثنا عنها، وتلك هي حين ينتقل المجتمع من حالة الحوار الصحي الناضج
والبحث عن حلول، إلى حالة يتمزق فيها المجتمع، وتتشظى معها مؤسسات الدولة، التي تتحول حينها من وعاء متماسك يحتضن المجتمع الذي يسيِّره، ويتحكم، بمسئولية وشفافية متناهية، في آلية حراكه السياسي والاقتصادي، إلى جانب حراكه الاجتماعي، إلى أرخبيل من الجزر «الإدارية» التي تحكمها ردة الفعل بدلا من المبادرة، وتسيِّرها الإجراءات اليومية بدلا من الرؤية الاسترتيجية الشاملة. كل ذلك من أجل اللحاق أو بالأحرى السير في ذيل حركة المعارضة، بدلا من المشي أمامها.
بالمقابل، تنحرف مؤسسات المعارضة مغادرة مواقعها الاستراتيجية، لاهثة وراء قضايا يومية صغيرة، وأمور حياتية محدودة، لا تتجاوز مكاسبها حدود الدائرة الضيقة التي تشبعها، والفترة الزمنية القصيرة التي تأججت فيها، وتتصدر في آن قائمة أولويات تقزم حجمها على الصعيدين: الموضوعي، بمعنى القضايا التي تتصدى لها، والزمني من حيث الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذها.
هذه الحالة تزداد حضورا في مراحل الأزمات، وعند الوصول إلى المنعطفات الحادة. وهذا ما نشهده اليوم في البحرين، من خلال الظواهر الآتية:
1 - انطلاق أكثر من مبادرة لوضع استراتيجية الدولة وخططها التنموية، إذ لا يمر علينا شهر، وربما خلال فترة أقصر من ذلك، دون أن نسمع عن تأسيس مجلس، أو إطلاق هيئة منبثقة من إحدى الوزارات أو جامعة لعدد من الوزارات، وتناط بها مهمات، بعضها ذو طابع استراتيجي. محصلة ذلك مجموعة متناثرة من إدارات الدولة الواهمة... إنها على قمة مؤسسة ترسم الخطط وتضع البرامج، التي غالبا ما يكون جزء منها تتولى رسم معالمه إدارة أخرى، أو تتولى تنفيذ برامجه إدارة ثالثة. وينتهي بنا الأمر إلى قرار مبتور أو غير متكامل، وآلية تنفيذ شبه مشلولة، وقنوات رقابة لا تملك أدوات المتابعة والتقييم.
2 - لهث هيئات التشريع والرقابة وراء قضايا خدماتية وحياتية صغيرة، واستهلاك قواها في متابعة أمور، لا نقلل من أهميتها، ولا ندعو إلى التوقف عن إيلائها الاهتمام الذي تستحقه، كي تشغل الحيز الذي ينبغي لها أن تكون فيه، لكنها لا ينبغي أن تتصدر قائمة أولويات تلك الهيئات، الأمر الذي يستنزف قوى تلك الهيئات ويستنفد جهودها في تلك القضايا الصغيرة، فتدوخ في دوامتها، إلى درجة تفقد القدرة على رؤية المسائل الكبرى والاستراتيجية... هي الآن كمن يقف أمام شجرة تبدو في غاية الضخامة إلى درجة تعمي نظر من يتمعن في تفاصيلها الصغيرة عن رؤية جمال وإمكانات الغابة التي تقف خلفها. وهي، أي القوى التشريعية، في خضم ذلك، تجر وراءها بوعي أو من دون وعي قوى المعارضة وجماهيرها.
3 - تمزق الحالة الجماهيرية التي تجد نفسها في حيرة من أمر ذاتها، فهي غير قابلة بذلك التشرذم الذي تعاني منه مؤسسات الدولة وإدارات صنع القرار فيها، لكنها بالمقابل غير مقتنعة بما تطرحه المؤسسات التشريعية أو قوى المعارضة من قضايا، ما يصيبها بحالة من الذهول يتطور كي يتحول إلى حالة شلل دائم يعوق حركتها، ويمنعها من ضخ دماء جديدة في أي من مؤسسات المجتمع، سواء تلك التابعة للسلطة التنفيذية، أو الأخرى المنخرطة في قنوات الهيئات التشريعية، أو الثالثة المنتظمة في صفوف المعارضة المؤطرة.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2254 - الخميس 06 نوفمبر 2008م الموافق 07 ذي القعدة 1429هـ