العدد 2253 - الأربعاء 05 نوفمبر 2008م الموافق 06 ذي القعدة 1429هـ

ما لا يصدق... حصل

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ما كان من الصعب تصديقه حصل. قبل نحو عامين قامت مؤسسة استطلاع بإجراء فحص لاختبار رأي الناخب الأميركي بوجود مترشح من أصل إفريقي ينافس المترشح الجمهوري وجاءت النتيجة 80 في المئة لمصلحة جون ماكين و20 في المئة لمصلحة باراك حسين أوباما. ماذا حصل خلال هذه الفترة القصيرة نسبيا حتى ينقلب الشارع الأميركي ويختار أوباما بغالبية 52 في المئة؟

أمور كثيرة تبدلت وكلها جاءت لمصلحة ترجيح كفة مترشح الحزب . آنذاك كان الملف العراقي يحتل مركز الصدارة والخلاف على حله شكّل نقطة تجاذب سياسية بين الحزبين المتنافسين. ماكين كان يدعم استراتيجية جورج بوش ويؤكد صحة قرار الحرب ويشير إلى أن مصلحة أميركا تقتضي البقاء في بلاد الرافدين لمئة عام إضافية. باراك كان يعارض الحرب ويطالب بالانسحاب ضمن مهلة زمنية لا تتجاوز 16 شهرا.

بعد الملف العراقي كان موضوع مكافحة الإرهاب يحتل المرتبة الثانية في اهتمامات الناخب الأميركي، وبعده الأمن القومي والخطر الخارجي بينما كان موضوع الاقتصاد يتبوأ مرتبة متدنية قياسا بالسنوات السابقة.

استمر الوضع يتقلب بين الكفتين حتى وقعت كارثة الرهن العقاري التي هددت مليون أسرة بالتشرد. بعدها حصلت أزمة الأسواق المالية التي ابتلعت مليارات الدولارات وأخذت تزعزع استقرار ملايين الناس ما أدى إلى انقلاب الاهتمامات وتعديل جدول الأولويات.

بين 2006 و2008 نجح أوباما في ترسيخ نفوذه في الشارع مستفيدا من انتقاداته السابقة لتلك الاستراتيجية الأمنية التي أخذت تفقد زخمها الدولي ولم تعد كافية لتلبي سياسة التخويف التي اعتمدتها إدارة بوش. فالشعارات الأيديولوجية التي تحذر الناخب الأميركي من احتمال حصول هجمات داخل الولايات المتحدة أخذت تتراجع قوتها المعنوية ولم تعد تثير تلك الحساسيات الأمنية وتحشّد الشارع لمواجهة مخاطر مزعومة. وبسبب هذه المتغيرات أخذ أوباما يتقدم وماكين يتراجع على وقع اختلاف الاهتمامات وانتقالها من ملف الأمن إلى ملف الاقتصاد.

لعبت الأزمة الاقتصادية دورها الحاسم في تذليل العقبات أمام أوباما حين اكتشف دافع الضرائب أن خزينة دولته فارغة من المال وإدارة بوش غير قادرة على معالجة كارثة أخذت تهدد الضمانات والتأمينات والودائع. إلا أن الأزمة التي انفجرت قبل أسابيع من موعد الانتخابات الرئاسية لم تكن هي الإطار الوحيد الذي ساهم في إنتاج معادلة سياسية غير منتظرة. فالتوقعات التي أعطت أوباما أفضلية في الفوز بالسباق الرئاسي تأسست على مجموعة معطيات غير مرئية تتجاوز كارثة الرهن العقاري وأزمة أسواق المال.

الاقتصاد لعب دوره والأمن كذلك، ولكن الديموغرافيا السكانية ساهمت في توليد أجوبة غير متوقعة أعطت ذاك الزخم الاستثنائي للمترشح أوباما وجعلته يتفوق على منافسته في الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون... ما فتح الباب أمامه للتقدم على المنصب الرئاسي في مواجهة ماكين.

حسابات خاطئة

معسكر ماكين كان سعيدا في اختيار أوباما استنادا إلى تلك الاستطلاعات التي أعطت الحزب الجمهوري 80 في المئة من الأصوات في حال اقتصرت المعركة على مواجهة المترشح الإفريقي الأصل، بينما أعطت كلينتون أفضلية الفوز في حال اختارها الحزب الديمقراطي. فالرهان على العنصرية (عدم تقبل الناخب الأبيض دخول رئيس أسود معقل البيت الأبيض) شكّل نقطة اطمئنان للحزب الجمهوري وجعله يتصرف وكأن نتيجة المعركة باتت محسومة لمصلحته.

لم تنتبه حملة ماكين إلى تلك المتغيرات التي أخذت تعيد تشكيل طبيعة النسيج اللوني للمجتمع وبدء نمو كتلة تصويتية تتألف من تحالفات تحتية تجمع الأقليات الملونة في دائرة مصلحة مشتركة. فهذه المجموعات الأهلية كانت الأكثر تضررا من حروب بوش وسياسته الاقتصادية المتهورة وهي أصبحت في موقع جاهز للثأر والانتقام من إدارة كرّست وقتها للسياسة الخارجية وعززت مصالح مؤسسات التصنيع الحربي وأسواق المال وشركات الطاقة وأهملت حاجات القطاعات المدنية وطموح الطبقات الوسطى في المحافظة على الحد الأدنى من الضمانات الصحية والتربوية والرفاهية الاجتماعية.

الأزمة الاقتصادية التي انفجرت عشية الانتخابات الرئاسية أعطت دفعة معنوية للشارع الملون وساهمت في توحيد الأقليات في دائرة متراصة ما أدى لاحقا إلى تعديل التوازن بين الحزبين.

إلى مسألة الديموغرافيا المعطوفة على الأزمة الاقتصادية وفشل السياسة الخارجية جاءت الشعارات العامة لترفع من قوة أوباما وتضعف ماكين. فالكلام عن التغيير عزز تلك الرغبة الكامنة في الشارع التي تحمست لفكرة كسر الاحتكار وفتح باب الرئاسة لقوى مهمشة اجتماعيا ومحرومة من حق التنافس على المناصب العليا. وفي هذا السياق لعبت الكتلة الكاثوليكية البيضاء دورها في تعديل التوازن حين أعطت نسبة عالية من أصواتها لمصلحة أوباما.

ما حصل أمس في أميركا يصعب تصديقه. حتى معسكر ماكين الذي اعتبر كلينتون هي المنافس الحقيقي اكتشف متأخرا أنه كان على خطأ. فالحسابات العنصرية تهاوت أمام دعوة التغيير وأدت إلى توليد جبهة من المتضررين البيض (43 في المئة أعطوا أصواتهم لأوباما) متعاطفة مع الأقليات الملونة من أفارقة ولاتين وهسبانكس والمجموعات العربية والمسلمة والآسيوية شجعت على كسر الاحتكار وتحقيق ذاك الاختراق التاريخي في السياسة الأميركية.

انتخاب أوباما ليس حادثا عاديا في حال تمت قراءة المسألة من الزاوية الديموغرافية (اللونية). فما حصل ليس تفصيلا في مجرى معركة عابرة وإنما إشارة رمزية تعطي فكرة عن تحولات داخلية يرجح أن تأخذ وقتها حتى تستقر على قاعدة تعيد رسم الشخصية الأميركية وتلك الثقافة الذهنية التي اعتمدت نمطية عرقية لونية في تمييز البشر والتعامل اليومي مع الناس.

هذا المتغير الداخلي سيلعب دوره الخاص في تشكيل قناعات مغايرة قد تنعكس سياسيا على الاصطفافات الحزبية والتحالفات اللونية والتجاذبات الأهلية ما سيترك تأثيره على مزاج الإدارة المقبلة وخططها في احتواء الأزمات الاقتصادية والمخاطر الأمنية ورؤية أميركا لقضايا العالم. كذلك سيؤدي هذا التعديل في الشخصية الأميركية إلى تكوين قراءة دولية تتعارض مع رؤية نمطية للديمقراطية التي تعتمدها الولايات المتحدة. فما حصل أعطى صدقية للنموذج الأميركي ويمكن أن تستغله الإدارة المنتخبة لترويج بضاعتها السياسية وتحسين سمعتها بعد تلك البهدلة التي تعرضت لها خلال عهد بوش.

فوز الحزب الديمقراطي في معركة الرئاسة واكتساحه الولايات وسيطرته على الكونغرس في غرفتيه (الشيوخ والنواب) كلها عناصر إضافية يمكن أن تجتمع لتعطي الرئيس المنتخب ذاك الزخم السياسي لتوليد قوة قد تساهم في التوصل إلى تحقيق الحد الأدنى من التغيير. فالتغيير الأولي (المبدئي) حصل وهذه نقطة قوية لمصلحة الديمقراطية الأميركية، أما تلك الوعود التي أطلقت بمناسبة الانتخابات الرئاسية فإنها تحتاج إلى فترة زمنية للتعرف على مدى جديتها وإمكان تحقيقها واقعيا في عالم تتنازعه الاحتكارات الكبرى.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2253 - الأربعاء 05 نوفمبر 2008م الموافق 06 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً