أثار استيلاء «المحافظين الجدد» على صناعة القرار في الإدارة الأميركية وغزوهم العراق وتهديد دول أخرى، إذا لم تستجب لمطالب واشنطن، أسئلة في أوساط حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها على حد سواء الذين أصابتهم الحيرة بشأن: ما الذي يجري في الولايات المتحدة؟ ومن الذي يرسم السياسة الخارجية؟ وما الذي يحاولون تحقيقه؟
ويرى الباحث الأميركي مايكل ليند أن التفسيرات شبه الماركسية المتعلقة بالنفط الكبير والرأسمالية الأميركية هي تفسيرات خاطئة. وقال: «صحيح أن شركات النفط الأميركية والمقاولين سيقبلون غنائم القتل في العراق، ولكن شركات النفط والانحياز الغربي لم تدفع لهذه الحرب (على العراق) بأكثر مما تؤيد تحالف بوش الوثيق مع أرييل شارون». وقال «إنه علاوة على ذلك فإن الرئيس الأميركي جورج بوش ونائبه ريتشارد تشيني ليسا فقط من رجال نفط تكساس الأصليين، ولكن السياسيين سيستخدمون ارتباطاتهم لإثراء أنفسهم».
ويرى خبراء ومحللون أن الثورة الأخيرة في السياسة الخارجية الأميركية هي نتيجة قوى غامضة ولكن مفهومة في عالم منظم. والحقيقة هي أكثر مدعاة للرعب، وأنه نتيجة لحالات طارئة متنوعة وغير منظورة يصعب التنبؤ بها مثل اختيار بوش رئيسا للولايات المتحدة بدلا من انتخابه، و11 سبتمبر/ايلول، فإن السياسة الخارجية الأميركية يجري صياغتها حاليا من جانب عصابة صغيرة لا تعتبر ممثلة للشعب الأميركي أو للمؤسسة العامة للسياسة الخارجية، وأن المجموعة الأساسية الممسكة بزمام الأمور الآن في واشنطن تتألف من مفكرين عسكريين من المحافظين الجدد لأن الكثير منهم بدأوا حياتهم يساريين وليبراليين قبل أن ينتقلوا إلى أقصى اليمين داخل الحكومة من أبرزهم وولفويتز العقل المدبر للدفاع في إدارة بوش. ودونالد رامسفيلد عبارة عن رئيس رمزي هرم يحتل منصب وزير الدفاع فقط لأن وولفويتز نفسه مثير للجدل جدا. وأيضا دوغلاس فايث وكيل وزارة الدفاع الأميركية للشئون السياسية ولويس ليبي وهو رجل وولفويتز الذي يحتل منصب مدير هيئة موظفي نائب الرئيس الأميركي تشيني، وبولتون وهو يميني متطرف عين في وزارة الخارجية لكبح وزيرها كولن باول، ومدير الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي إليوت أبرامز. وفي خارج الحكومة الأميركية هناك المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) جيمس وولسي الذي حاول مرارا ربط 11 سبتمبر ورسائل الأنثراكس (الجمرة الخبيثة) في الولايات المتحدة بصدام وبيرل.
ومعظم هؤلاء لم يعملوا قط في الجيش ولكن مقراتهم الآن هي مكتب وزير الدفاع الأميركي. وهم لا يحظون بثقة الجمهوريين من الجنود المهنيين. ومعظم «المحافظين الجدد» نتاج القطاع اليهودي الأميركي ذي النفوذ السابق في الحركة التروتسيكة في الثلاثينات من القرن الماضي ثم تحولوا إلى ليبرالية مناهضة للشيوعية في الفترة ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي ثم تحولت اتجاهات معينة منهم في النهاية الى نوع من اليمين العسكري الإمبريالي غير المسبوق في الثقافة الأميركية أو التاريخ السياسي الأميركي.
وإن إعجابهم بتكتيكات حزب الليكود الصهيوني بما في ذلك «الحرب الوقائية» مثل عدوان «إسرائيل» على المفاعل النووي العراقي في العام 1981 ممزوج بنوبات شاذة من الحماس الأيديولوجي للديمقراطية. إنهم يدعون أيديولوجيتهم باسم «وولسونيزم» نسبة الى الرئيس الأميركي السابق ودرو ويلسون، ولكنها في الحقيقة نظرية تروتسكي للثورة الدائمة الممتزجة بصهيونية الليكود المتطرف. فالأميركيون الحقيقيون المؤيدين لويلسون يؤمنون بحق تقرير المصير للشعوب مثل الشعب الفلسطيني.
وقال الباحث مايكل ليند إن المفكرين العسكريين الجدد إضافة إلى وجودهم الفعلي في البنتاغون وحوله هم موجودون في البنتاغون المجازي للوبي الخاص بالكيان الصهيوني واليمين الديني إضافة إلى مراكز الأبحاث اليمينية ومؤسسات وسائل الإعلام الأميركي. وإن مراكز الأبحاث مثل «معهد أميركان انتربرايز» يوفر مراكز للمحافظين الجدد للداخلين إليه والخارجين منه. وعندما يخرجون من الحكومة يذهبون إليه. فريتشارد بيرل زميل في ذلك المعهد، كما أن بولتون كان زميلا سابقا فيه.
والارتباط الرئيسي بين مراكز البحث واللوبي الصهيوني هو المعهد اليهودي لشئون الأمن القومي (جينزا) الذي يتخذ من واشنطن مقرا له، والمؤيد لليكود ويختار الكثير من الخبراء العسكريين غير اليهود عن طريق إرسالهم في رحلات مدفوعة النفقات إلى الكيان الصهيوني. وكان من بين الذين قام بإرسالهم جاي غارنر الذي اختاره بوش ليكون حاكما إداريا واسع الصلاحيات للعراق المحتل.
ففي شهر أكتوبر/تشرين الاول العام 2000 شارك غارنر في توقيع رسالة لمعهد «جينزا» جاء في بدايتها «نحن نعتقد أنه خلال الاضطرابات الحالية في إسرائيل فإن قوات الدفاع الإسرائيلية مارست ضبطا رائعا للنفس في مواجهة العنف القاتل الذي دبرته قيادة السلطة الفلسطينية».
واللوبي الصهيوني منقسم إلى جناحين: يهودي ومسيحي. وولفويتز وفايث لهما روابط وثيقة مع اللوبي الصهيوني من اليهود الأميركيين. وإن وولفويتز الذي له اقارب في فلسطين المحتلة عمل رجل ارتباط في إدارة بوش مع اللوبي الصهيوني المعروف باسم «إيباك» ومنحت المنظمة الصهيونية لأميركا (منظمة متطرفة) جائزة، ووصفته المنظمة الصهيونية بأنه «نشط ومؤيد لإسرائيل». وعندما كان فايث خارج السلطة في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون تواطأ مع بيرل في الاشتراك في صوغ ورقة سياسية لليكود نصحت حكومة بنيامين نتنياهو آنذاك بإنهاء عملية تسوية أوسلو وإعادة احتلال مناطق السلطة الفلسطينية وسحق سلطة ياسر عرفات.
ومثل هؤلاء الخبراء ليسوا من اليهود الأميركيين التقليديين، الذين صوت معظمهم في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة لألبرت غور. وإن أشد المؤيدين حماسا لليكود في الدائرة الانتخابية الجمهورية الأميركية هم الأصوليون (المتعصبون) البروتستانت الجنوبيين، ويعتقد اليمين الديني المسيحي الأميركي ان «يهوه» أعطى كل فلسطين لليهود. كما أن التجمعات الصلوية لهؤلاء الأصوليين المتعصبين ينفقون الملايين للمشاركة في بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة. وإن الزاوية الأخيرة للبنتاغون الخاصة بالمحافظين الجدد تحتلها امبراطوريات كثيرة لوسائل الإعلام اليمينية المتطرفة التي لها جذورها -كما يبدو - في الكومنولث البريطاني وكوريا الجنوبية. فروبرت ميردوخ يبث الدعاية من خلال شبكته التلفزيونية «فوكس» ومجلته «ميكلي ستاندرد» التي يديرها ويليام كريستول (وهو يهودي أميركي تولى منصب رئيس هيئة موظفي نائب الرئيس الأميركي السابق دان كويل) تقوم بدور الناطق باسم المثقفين والخبراء الدفاعيين مثل بيرل وولفويتز وفايث وويلسي ولحكومة شارون. كما أن «ناشيونال انديست» يقوم بتمويلها كونراد بلاك الذي يملك صحيفة «جيروزاليم بوست»، وامبراطورية «هولينجر» في بريطانيا وكندا. والأغرب من ذلك هو شبكة وسائل الإعلام المتركزة في صحيفة «واشنطن تايمز» اليمينية التي يملكها قسيس كوري جنوبي هو صن ميونغ مون التي تملك أيضا وكالة أنباء «يونايتد برس انترناشيونال» ويديرها الآن جون أوسوليفان الذي كان يتولى منصب كاتب خطابات رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر، الذي عمل سابقا لصحيفة كونراد بلاك في كندا.
ومن خلال مثل هذه القنوات الإعلامية اليمينية فإن أسلوب الجناح اليميني للصحافة البريطانية ومادتها الابتهاجية لوّثا الحركة المحافظة الأميركية.
وقد ربطت زوايا البنتاغون المحافظة بعضها بعضا في التسعينات من القرن الماضي بمشروع القرن الأميركي الجديد الذي يديره كريستول من مكاتب مجلته «ويكلي ستاندرد». الذي صدر في نحو تسعين صفحة في نهاية التسعينات يدعو إلى احتلال العراق وإسقاط نظام حكمه والسيطرة على ثروته النفطية وأن يكون منطلقا لإعادة صوغ خريطة المنطقة العربية وجوارها
العدد 225 - الجمعة 18 أبريل 2003م الموافق 15 صفر 1424هـ