ما هي الأسباب التي دفعت إدارة الاحتلال الأميركي في العراق إلى اتخاذ قرار باختراق الحدود السورية وارتكاب مجزرة بحق مدنيين في منطقة بوكمال؟ الذريعة الجاهزة غير مقنعة. والكلام عن ملاحقة شبكات «الإرهاب» وحق قوات الاحتلال في مطاردة من تتهمه بالوقوف وراء أعمال العنف في بلاد الرافدين غير كاف لتبرير سياسة عدم احترام سيادة الدول التي نصت عليها الشرعية الدولية.
التذرع بالإرهاب وحق الولايات المتحدة بملاحقته من دون مراعاة لمصالح الدول لم تعد تلقى التأييد بعد مرور سبع سنوات على غزو أفغانستان وخمس سنوات على احتلال العراق. فالعالم خلال الفترة المذكورة تغير كثيرا وما كان يمكن التعامل معه بإيجابية في لحظات التعاطف مع واشنطن نتيجة هجمات 11 سبتمبر/ أيلول لم يعد من الأمور المحسومة دوليا بسبب تلك الكوارث الإنسانية والمدنية والعمرانية التي أنزلتها القوات الأميركية في المناطق المحتلة. وعدم قراءة إدارة جورج بوش لمجموع هذه المتغيرات في فترة انتقالية تمر بها إدارته يرسل إشارات سلبية تؤكد على أن الرئيس لايزال في المكان الذي انطلق منه قبل سبع سنوات وهو يصر على مواصلة سياسة فاشلة.
حتى الآن ترفض إدارة بوش الاعتراف بالفشل. فهي لاتزال تصر على أنها حققت إنجازات عسكرية، وحررت الشعبين الأفغاني والعراقي من الاستبداد، وأطلقت الناس من السجون، وفتحت أبواب الحرية، وساعدت المرأة على تحسين وضعها، وأسست أجهزة تتحرك تحت سقف القانون... وغيرها من نقاط ترى واشنطن أنها كافية لتبرير سياسة تقويض الدول وتقطيع أوصال العلاقات الأهلية وتشجيع الناس على ممارسة سلوك القتل والتقاتل والتطهير العرقي والديني والطائفي والمذهبي والمناطقي.
إصرار إدارة بوش على أن العدوان على أفغانستان والعراق لا يحتاج إلى شرعية دولية لأنه أساسا يعتمد على ذريعة (مكافحة الإرهاب) لا تتطلب تحقيقا قضائيا ولا أدلة دامغة ما يعطي واشنطن حق التحرك تلقائيا من دون عودة إلى القانون الدولي أو احترام سيادة الدول. ومثل هذه الخلفية الأيديولوجية التي لا تزال تسيطر على الرؤوس الحامية في البيت الأبيض تشكل في جوهرها ذاك الدافع الخلقي - السياسي الذي يبرر للاحتلال في العراق مطاردة «الإرهاب» في كل مكان وأي زمان من دون استشارة قانونية أو انتباه لمعنى احترام السيادة واحتمال حصول تداعيات لهذا الفعل أو ذاك.
ما حصل على الحدود السورية - العراقية يشير بوضوح إلى منطق أيديولوجي (تيار المحافظين الجدد) يرفض الاعتراف بالفشل ويؤكد على أن حربه عادلة وشرعية وناجحة في المعايير الدولية والمقاييس الأخلاقية. هذا المنطق الأيديولوجي الذي لا يزال يناطح الوقائع ويخالف المشاهد يولد مع الأيام سياسة يرجح أن تستمر إلى فترة زمنية حتى بعد رحيل إدارة بوش عن واشنطن. فالتمسك بالنجاح على رغم وجود علامات ساقطة يشير إلى نوع من المعاندة للحقائق وعدم القبول بالأمر الواقع والاعتراف بالفشل... إلا إذا كانت خطة واشنطن من البداية كانت تقتضى تدمير العراق وتحطيم أفغانستان لتبرير سياسة إعادة تشكيل الخرائط بذريعة أن النتائج الميدانية فرضت وقائع لا يمكن إنكارها.
المقامرة والمغامرة
البعد الأيديولوجي مهم لتفسير ما حصل في منطقة بوكمال الحدودية السورية. إلا أن حادث الاختراق لابد من وضعه في الإطار السياسي لفهم تلك الدوافع التي شجعت إدارة الاحتلال على اتخاذ قرار تدرك سلفا أنه لن يمر من دون ردود فعل وتداعيات. فلماذا اعتمدت القوات الأميركية هذا التكتيك المكشوف دوليا في وقت يلاقي المترشح الجمهوري على الرئاسة معوقات قد تسقطه في معركة داخلية تنتظر بضعة أيام لحصولها ومعرفة نتائجها.
اختراق الحدود (سيادة الدول) يتخطى البعد الأيديولوجي ويتجه نحو السياسة وتوقيت الضربة. فالتوقيت جاء بعد تأخر الأطياف العراقية في التوقيع على «الاتفاق الأمني» الذي يشرع الاحتلال ويعطيه ذاك الغطاء القانوني المطلوب لإقفال الكثير من الملفات الداخلية والإقليمية والجوارية. وعدم التوقيع على الاتفاق الذي تحتاجه الإدارة الأميركية لتشريع سياستها وتغذية وجودها العسكري يؤرق واشنطن ويضع بوش في زاوية ضيقة تشير في النهاية إلى فشله التام حتى مع أصحابه وذاك الطاقم من «المتعاونين» الذين تعامل معهم واعتمد عليهم لاجتياح بلاد الرافدين.
إدارة بوش تلعب الورقة الأخيرة وتراهن على ذاك الرقم السري (السحري) الذي قد يقلب المعادلة ويرتب الجدول الزمني للانسحاب. وحتى تكون الطاولة جاهزة لاستقبال المفاجأة لابد أن يوقع «الأصحاب» والمجموعات «المتعاملة» أو تلك التي استفادت من الاحتلال على وثيقة «الاتفاق الأمني» التي تجيز تموضع القوات إلى فترة زمنية وتشرع الاجتياح وتعطيه ذاك الغطاء المطلوب داخليا لتبرير الفشل في الحسابات النهائية.
الاتفاق الأمني هو «الورقة الأخيرة» على طاولة بوش، وإدارته تراهن عليها لكسب الجولة قبل مغادرة البيت الأبيض. وفي حال تأخر التوقيع تكون إدارة بوش حققت ذاك الفشل المدوي وتلقت تلك الضربة غير المتوقعة من أقرب الأصدقاء و«المتعاملين». وبسبب هذا الخوف أخذت الهواجس ترتفع حرارتها وتضغط نفسيا على تلك الرؤوس الحامية في البيت الأبيض التي لاتزال تراهن على انقلاب اللحظات الأخيرة ومستعدة للمقامرة والمغامرة والمخاطرة لإنقاذ اللعبة من السقوط في الجولة الأخيرة.
الهجوم على قرية السكرية واختراق الحدود السورية وعدم احترام سيادة الدولة كلها مؤشرات تدل على خطورة المأزق الذي وصلت إليه إدارة بوش قبل أسبوع من موعد الانتخابات الرئاسية وقبل شهرين من نهاية مهلة التفويض الدولي للاحتلال الأميركي. فالتوقيع على الاتفاق حاجة ملحة تضغط إدارة بوش للحصول عليها لأنها تشكل في النهاية ورقة رابحة يمكن استخدامها لتحسين موقع الحزب الجمهوري في المعركة الداخلية انطلاقا من ترويج فكرة النجاح وعدم الفشل في العراق وأفغانستان. والتأخر في التوقيع يضعف منطق الإدارة الأيديولوجي ويربكها سياسيا ويعطي خصومها ورقة يمكن الاعتماد عليها لتأكيد مقولة الفشل.
معركة اللحظات الأخيرة خطرة وهي يمكن أن تقلب الطاولة في حال وصول الإدارة إلى منعطفات حادة قد تؤدي إلى اصطدامها بحواجز غير متوقعه. ومثل هذا الاحتمال الصعب يرفع من درجة الحرارة ويشجع الرؤوس الحامية في البيت الأبيض على التحرك والمغامرة طمعا في كسب الورقة الأخيرة في اعتبار أنها تشكل الملاذ الآمن تمنع الإدارة من الانزلاق والاصطدام بتلك الموانع التي لم تكن داخلة في حسابات بوش الأخيرة. فالمراهنة على الأصدقاء والحلفاء للمساعدة على تجنب الانهيار وإنقاذ المشروع من الفشل المدوي أصبح الآن محط نقاش وعرضة للتداول والمساومة والأخذ والرد وحذف فقرات من «الاتفاق الأمني». ومثل هذا النوع من المقامرة يفسر إلى حد معين تلك الأسباب التي دفعت إدارة الاحتلال إلى اتخاذ قرار المغامرة والهجوم على قرية سورية على الحدود. فالمقامر مغامر بطبعه والاعتماد على الورقة الأخيرة «ضربة حظ» تحتمل النجاح المحدود ولكنها تفتح الأبواب نحو الفشل الكامل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2248 - الجمعة 31 أكتوبر 2008م الموافق 01 ذي القعدة 1429هـ