في الواقع لم تفاجئنا تلك الزوبعة التي أثيرت في ضوء مشاركة بعض النواب والمواطنين في ندوة بالولايات المتحدة الأميركية بشأن الحريات الدينية والتمييز. فقد وصل البعض إلى اتهام المشاركين بالخيانة الوطنية، متجاهلين أن أبسط مقومات حقوق الإنسان والمواطنة وحرية الرأي أن يكون المواطن حرّاَ في معتقداته ومرجعياته وأفكاره، وبالتالي يجب أن يمتلك مطلق الحرية في التعبير عن تلك الأفكار والمعتقدات والقناعات سواء داخل الوطن أو خارجه، ولا يملك أحد الحق في محاسبته أو تحريض الدولة ومسئوليها عليه.
على هذا الأساس فإن النفخ الذي مارسه البعض في نار الفتنة من منطلقات وأجندات طائفية بحتة يجب ألا يلهينا عن حاجتنا ليس فقط إلى مقاييس واضحة وشفافة عند اختيار الكفاءات لشغل المناصب والمواقع في أية وزارة أو شركة أو مؤسسة، وإنما إلى تشريع قوانين واضحة وملزمة تحرم التمييز سواء على المستوى القبلي أو العائلي ودع عنك الطائفي.
التمييز وبالذات على مستوى التوظيف ليس في مؤسسات الدولة وحدها وإنما حتى على مستوى القطاع الخاص بمؤسساته وشركاته واقع لا يمكن إنكاره ولا تجاهله، فلا يمكن حجب نور الشمس الساطعة بغربال بالي.
نقول التمييز موجود وواقع ويمارسه أفراد على مستوى الوزارات والمؤسسات والشركات، كما تمارسه بعض الأجهزة والمؤسسات، لكن هذا التمييز لا يتم فقط على المستوى الطائفي، وبالتالي فإن الباحث سيجد كثيرا من الأمثلة لشاغلي مواقع ووظائف على مستوى الدولة والمؤسسات العامة والخاصة على رغم وجود الكثيرين ممن هم أكثر كفاءة وقدرة منهم على العطاء وخدمة الوطن وإنجاز المهمات المنوطة بهم.
ومن وجهة نظرنا المتواضعة فإن على التيارات والقوى السياسية بمختلف تلاوينها أن تبتعد عن معالجة هذا الملف بنَفَس وهاجس طائفي من منطلقات المحاصصة الطائفية والتركيز على المطالبة بمعايير الكفاءة والقدرة والعطاء حتى لا تتصيد لها أبواق الفتنة والطبالين الذين يروجون لمشاريع التشطير العمودي في هذا المجتمع.
لكن مشكلتنا هي في الواقع العجز المطلق لنوابنا الأفاضل الذين هم من جهة محصورون بصلاحيات تشريعية منتقصة إن لم نقل واهية لا تمكنهم في أحسن الأحوال من إبداء الرغبات ورفع الاقتراحات، ومن جهة أخرى واقع حالهم وإمكاناتهم وقدراتهم (لكي لا نقول ولاءاتهم وانتماءاتهم) لا تمكنهم من أداء الدور المناط بهم في سد الثغرات التشريعية ومعالجة الملفات الأساسية والتي من دون علاجها والتعامل معها من المستحيل أن ينجزوا ما هو في الواقع مطلوب منهم وفي صلب مهماتهم.
نوابنا الأفاضل يفتقدون أطقما من الباحثين وجهازا متكاملا يعينهم على أداء واجباتهم. لكنهم فضلوا أن يضيفوا ما يدفع إليهم وإلى مخصصاتهم، بدلا عن صرفها لتيسير مهماتهم ورفع مستوى أدائهم، لكن المشكلة هي واقع حالنا وناخبينا الذين يوصلون هكذا نوابا إلى مواقع التشريع والتي هي في الأساس تم تحصينها ضد أية إمكانية لممارسة الدور التشريعي والرقابي!. بل وكيف يمكن لمجلس سبق أن ضجت صحافتنا بنشر تعيينات وظائفه ومواقع العمل فيه على أساس إما حزبي أو قبلي أو عائلي أن يحارب ويتصدى لملف التمييز هذا؟ ففاقد الشيء لا يعطيه.
نقول ونعيد لو بحث نوابنا في التشريعات التي هي متوافرة في الدول المتقدمة لوجدوا أن تشريع الحقوق المدنية للعام 1984 في الولايات المتحدة يمنع ويجرم أي تمييز على أساس العرق واللون والديانة والجنس والجنسية. وهناك الكثير من التشريعات الأخرى التي يمكن أن تساعدهم على صياغة تشريعات تحرّم وتجرّم التمييز. فعلى سبيل المثال يمكن مراجعة تشريع التمييز على أساس السن في التوظيف للعام 1867، وتشريع فرص التوظيف العادلة للعام 1972، وتشريع الأسس الموحدة لآليات الاختيار في التوظيف للعام 1978.
لذلك وبسبب قساوة وشراسة تلك الحملة والزوبعة التي أثارتها مشاركة الإخوة نوابا كانوا أو مواطنين في الندوة التي تداولت موضوع الحريات الدينية، ولكي يبتعدوا عن أية اتهامات أكيلت أو ستكال لهم من منطلق طائفي بحت، نرى أن يصدر بيان باسمهم يوضح أنهم ليسوا أبدا مع المحاصصة الطائفية وإنّ المطلوب هو القضاء على التمييز بكل أشكاله طائفيا كان أو دينيا أو إثنيا أو عرقيا أو على أساس الجنس أو اللون أو المعتقد.
وعلى قوى المعارضة وهي التي ركزت في خطابها على محاربة الطائفية والمطالبة بقانون يجرّمها أن تعمل على جمع البيانات والحقائق بشأن التمييز بمختلف أشكاله، وأن تطالب بل تعمل على إيجاد تشريعات تجرّم التمييز وتضع مقاييس الكفاءة والخبرة في اختيار الكفاءات للعمل سواء على مستوى وزارات الدولة أو المؤسسات والشركات في القطاعين العام والخاص.
نقول إن كان الإخوة في الجمعيات السياسية سواء داخل المجلس النيابي أو خارجه صادقين في معالجة هذا الملف، فعليهم التعاون لجمع الحقائق والإحصائيات التي تدعم توجههم وتقوي مطالبهم. وعلى أن يشمل هذا الملف كل التعيينات وكل المواقع ليس فقط على مستوى وزارات الدولة ومؤسساتها وإنما حتى الممارسات الفردية على مستوى الشركات الكبرى وشركات القطاع العام، ففي نهاية الأمر يجب أن تكون حملة على الفساد والتمييز حتى لو كان على أساس عائلي أو قبلي فهو فساد إداري تجب محاربته
إقرأ أيضا لـ "عبدالمنعـم الشـيراوي"العدد 2242 - السبت 25 أكتوبر 2008م الموافق 24 شوال 1429هـ