من الطبيعي أن نرى الآن تطورا كبيرا في العلاقات ما بين الكويت والعراق الجديد ما بعد صدام حسين، إذ كان تأكيد الكويتيين وإصرارهم على أن الحاجز والعقبة كأداء في إعادة العلاقة الى سابق عهدها هي وجود نظام البعث المنهار المسئول الرئيسي عن غزو بلادهم واجتياحها واستباحتها وحصول ما حدث من خراب وتدمير فيها. فبعد زواله تنتفي جميع الأسباب الداعية إلى استمرار قطع الروابط المتينة ما بين الشعبين العراقي والكويتي، وقد وقفت دولة الكويت حكومة وشعبا موقفا متفردا في هذه الحرب الأخيرة، وسخرت كل إمكاناتها وخبرتها لصالح الحلفاء الأنجلو - أميركيين، في سبيل تحقيق الهدف الأساسي وهو إسقاط حكم النظام البعثي، ووقفت أيضا موقفا إيجابيا تجاه قضية الشعب العراقي ومأساته، وبالذات حينما بدأت قوافل المساعدات الإنسانية تترى في الوصول الى المدن العراقية، وهي مشكورة على موقفها الإنساني هذا التي قد سبقت به شقيقاتها من الدول العربية الأخرى، وبالتأكيد سيحفظ لها شعب الرافدين ذلك.
فإذا تمكنت الكويت من نسيان الماضي وضمدت جرحها النازف مع شقيقتها الكبرى العراق.
في الوقت نفسه - ومع شديد الأسف - فتحت جروحا أخرى كثيرة في هذه الأزمة الأخيرة مع أشقاء عرب كثيرين، وفتحت جبهات كثيرة عليها، وبالخصوص اتجاه جماهير الشارع العربي العريضة.
وأنا من خلال حديثي هذا قد أفتح ملفا شائكا، لكني لا أقصد منه الإثارة والسبق الصحفي بقدر ما أريد مخلصا معالجته والوصول إلى رأي وفكرة يتفق عليها الجميع بمشيئة الله.
أبرز ما يثار في هذا المجال وتؤاخذ عليه دولة الكويت هي في طريقة وأسلوب متابعتها الإعلامية وتغطيتها الخبرية لمجريات هذا العدوان عبر منابر إعلامها المقروءة منها والمسموعة والمرئية، فالمتتبع لها يصل الى نتيجة مفادها أنها منافذ دعائية أميركية صرفه، بل - وأقول ذلك آسفا - فاقت محطات إخبارية في أميركا كقناة السي إن إن في انحيازها للعدوان الأنجلو - أميركي، وهي الدولة العربية الوحيدة التي تبنت رسميا الشعار الأميركي (حرب تحرير العراق) في إعلامياتها، ومن ثم كانت في رصدها ونقلها للحدث تتجنب وتتحاشى كل ما يسيء الى قوات الغزو من مشاهد سقوط مئات الضحايا الأبرياء القتلى منهم والجرحى، ومناظر التدمير المروع للبنية التحتية والمدنية في مناطق العراق المختلفة باستثناء نقلها المباشر - دائما - لصور القصف المدمر لمدينة بغداد ولأفواج وأرتال الدبابات والمدرعات المصفحة المخترقة للعمق العرقي، والهدف من ذلك - في نظري - هي خدمة الحرب الإعلامية النفسية التي تشنها أميركا عبر قوتها وقدرتها الهائلة التي تمتلكها آلتها العسكرية.
ولنتصور حينها، كيفية وحجم رد فعل المواطن العادي في عموم الشارع العربي من خليجه الى محيطه وهو يشاهد هذا التفرد الغريب للإعلام الكويتي وهو يتناقض كليا مع مشاعره وعواطفه الجياشة تجاه اخوته في بلاد النهرين المتمثلة في أسفه وحزمه الكبيرين لما يجري هناك وفي رغبته العميقة في نصرتهم والدفاع جنبا الى جنبهم عن بلدهم وكرامتهم.
ومهما تكن الأسباب والمبررات التي صرح بها المسئولون لهذا الإعلام بمختلف مشارب، فإنها لم ولن تكون مقبولة - على الإطلاق - حتى عند الكثير من أبناء الكويت أنفسهم.
وعلى رغم ان هذه المنابر كانت تحاول تسويق موقفها هذا أو تبريره من خلال إجراء المقابلات واللقاءات مع الكثير من الشخصيات العراقية المعارضة بمختلف انتماءاتهم واتجاهاتهم- وأعرف البعض منهم وأثق في صدقه وشرف انتمائه لبلده العراق - وكانت تظهر موافقة وقبول هذه الشخصيات لتبنيها لشعار (حرية العراق) في إعلامها.
لكن ما كان من أي فرد عربي يستمع لمثل هذه الحوارات ان يصل الى نتيجة مفادها صحة هذه الطريقة في الإدارة الإعلامية لهذا الحدث الجلل وصوابها ومن ثم يقتنع ويرضى بها.
ولنرجع بالذاكرة إلى الوراء قليلا، أيام متابعتنا لحوادث الغزو العراقي للكويت، الموقف سواء من - كاتب هذه السطور - أو من كثيرين هو نفسه، فلم نكن مقتنعين وراضين البتة لتلك المسوقات التي كان يطلقها بعض المتعاطفين مع ذلك الاجتياح الآثم في وسائل إعلامهم.
من ناحية أخرى شاهدنا بعض المواقف السياسية المتطرفة التي اتخذت تجاه بعض الجهات والبلدان العربية، وهذه المرة قد صدرت من مؤسسات وهيئات شعبية صرفه - وأخص بالذكر البرلمان الكويتي، فقد رأينا رئيس مجلس الأمة يصب جام غضبه على الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ويصفه بالانتهازية، ويتهمه بالانحياز للنظام العراقي. وسنا لقرارات التي اتخذها المجلس (البرلمان) بخصوص إلغاء الاتفاقات الاقتصادية والتجارية المبرمة مع دول عربية مثل سورية واليمن والأردن والسودان بسبب عدم تعاطفها وتأييدها للموقف في الكويت - حقيقة - أو بحسب ما قاله الناطق باسم المجلس أن السبب في عدم إدانتها القصف الصاروخي العراقي لمدينة الكويت.
هذه القرارات المرتجلة والانفعالية أعادت الى الاذهان تلك العزلة التي فرضتها الكويت على نفسها - إبان تحرير الكويت - مع مجموعة من الأقطار في الوطن العربي بما فيها المذكورة سلفا باستثناء سورية وانتهاجها سياسة المقاطعة معها تحت شعار (دول الضد) التي ما كادت أن تخرج منها إلا منذ سنوات قليلة.
ولا يخفي ما لهذه السياسات من أثر كبير في تعميق الجرح والشرخ ما بين شعبنا الكويتي وسائر الشعوب العربية الأخرى، وإن كان وُجد مبرر لهذه السياسية فيما مضى، فليس فقط لا يوجد تبرير مقنع لها الآن، بل ان المبادرة بإقرارها وتطبيقها لهو خطأ فادح ستنعكس آثاره السلبية على الجمهور في الكويت ولأمد طويل من الزمن.
ولا أنسى التنويه بالموقف الحكيم الذي اتخذه نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد بحث أعضاء مجلس النواب على عدم التعجل باستصدار مثل هذه القرارات وبضرورة التعامل الهادئ والحذر مع هذه الموضوعات الصعبة في العلاقات مع الدول الشقيقة وهو بذلك يعيد إلى ذاكرتنا دوره الرئيسي والفعّال في إعادة المياه الى مجاريها مع الكثير من الدول التي تمت مقاطعتها سابقا.
ومثل هذا السلوك المتعقل من رأس الهرم السياسي التنفيذي في الكويت جدير بالاتباع والاقتداء به من قبل أعضاء سائر المؤسسات الرسمية في الدولة وكل الهيئات والتجمعات الأهلية التي تمثل وجهة نظر المواطنين بشكل مباشر
العدد 224 - الخميس 17 أبريل 2003م الموافق 14 صفر 1424هـ