لاشك أن المتتبع لدراسة التطورات السياسية في منطقة الشرق الأوسط عامة والدول الإسلامية والعربية خاصة يلمس بلا لبس كيف أن هذه المنطقة وعقيدتها مستهدفة بغرض تدميرها والقضاء على ثقافتها وإشعال الفتن بين طوائفها وأديانها ومن ثم إضعافها بدرجة أكبر مما هي ضعيفة الآن.
وتبرز حالة الاستهداف في سعي الأعداء إلى بث الفرقة من خلال خمس وسائل: الأولى: إثارة الخلافات المذهبية، والثانية: إثارة الخلافات العرقية والأثنية، والثالثة: إثارة الخلافات السياسية بين الحكام والمحكومين وبين القوى السياسية المختلفة، والرابعة: إثارة الخلافات بين الدول الإسلامية والعربية بعضها بعضا.
وهذه الوسائل الخمس تمثل أحسن وصفة لتدمير الدول وإذكاء نار الفتنة بين الشعوب. وللأسف الدول والقوى السياسية والدينية والمذهبية والعرقية في المنطقة أحيانا تندفع بلا وعي في هذا السياق إما لأغراض ضيقة وفكر محدود الأفق، وإما تحت إغراءات مالية أو سياسية أو تصورات مذهبية، وإما استرجاعا لتاريخ وأحداث سابقة عفا عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث ولا مبرر ولا فائدة من نبش قبور الموتى إلا إذكاء نار الفتنة وما يحدث في العراق وفلسطين وإلى حد ما في لبنان والسودان من الشواهد والأمثلة الواضحة في هذا الصدد.
ولتوضيح ما سبق يمكننا ان نشير إلى أن ما يتردد بشأن حوادث الصراع بين السنة والشيعة والأكراد والمسيحيين وغيرهم في العراق، وحوادث التبشير المسيحي والشيعي في مصر وحوادث ما يسمى بالهلال السني أو غيرها كلها حوادث مفتعلة وتمليها مصالح ضيقة الأفق والرؤية وهذا كله أمر مؤسف للغاية وكما ذكرت يعد أفضل وصفة لتدمير الأوطان بل أيضا الأديان.
فلا يمكن استدعاء الحروب الصليبية أو ادعاء التاريخ القبطي لمصر أو الخلافات بين الإمام علي عليه السلام ورضي الله عنه وبين يزيد بن معاوية أو الحسين بن علي أو غير ذلك من حوادث التاريخ. التاريخ أهميته للعبرة وليس اجترار أحداثه.
وللأسف يمكن القول إن العراق في ظل الحكم السابق على حكم الاحتلال أكثر أمنا للعقائد والأعراف على رغم كل تجاوزات ذلك النظام الاستبدادي. وحقّا قال بعض العلماء في العصر الماضي حاكم غشوم ولا فتنة تدوم. إنني ضد أي حاكم غشوم أو ظالم ولكن احتدام الفتن أكثر تدميرا، ولهذا أدرك الأوروبيون بعد حرب دينية بين الكاثوليك والبروتستانت استمرت 30 عاما هذه الأخطار وتجاوزوها في فكرهم وأنظمتهم وعلاقاتهم. ولكن نحن العرب والمسلمين لم ننضج فكريّا بعد ولانزال نعيش الماضي السيئ، في حين أن المطلوب أن نعيش الماضي الجميل، ونتطلع إلى المستقبل الأفضل. نتعاون كأديان أو طوائف أو مذاهب أو أعراق مع بعضنا بعضا. لقد كان صلاح الدين الأيوبي كرديّا وقاد جيوش المسلمين ضد الصليبين ولا يعرف 90 في المئة من المسلمين إلى أي الأعراق ينتمي أو إلى أي مذاهب الدينية، ولكنهم يعرفونه قائدا عظيما للأمة الإسلامية ضد أعدائها الحقيقيين الذين غزوا بلادها وأوطانها.
إن تحويل مسيحي إلى الإسلام أو مسلم إلى المسيحية أو شيعي إلى السنة أو سني إلى الشيعة هو من صغائر الأعمال، ولن يزيد من قيمة المذهب أو الدين الذي يتحول إليه شخص مَّا، ولا ينقص من قيمة الدين أو المذهب الذي يتركه شخص مَّا، ولا يؤكد صدقيته ولا عدم صدقيته، إن عالم القرن الحادي والعشرين هو عالم الحرية الدينية والمذهبية وليس عالم الحروب الدينية والمذهبية ونشرها لاكتساب أتباع لهذا الدين أو ذاك أو هذا المذهب أو ذاك. إن بعض ما يحدث يذكرنا بحروب الطوائف في الأندلس وكذالك الانقسام والتصارع بين الدويلات الإسلامية في عصر الدولة العباسية وما بعدها ولهذا زالت شوكة المسلمين وانزوت حضارتهم وضعفت قوتهم وأصبحوا فريسة سهلة للاستعمار والتخلف والجهل.
إن آفة الأديان والمذاهب هي صراع رجال الدين والمذاهب بأفكارهم الضعيفة وسعيهم إلى السيطرة على السياسة، وكذلك الآفة الأخرى استخدام رجال السياسة للفكر المذهبي والديني لأغراضهم التوسعية ومآربهم السياسية. وسياسات الدُّول، حتى وإن رفعت شعارات دينية فان جوهرها سياسة وطنية وقومية والشواهد كثيرة على ذلك في جميع مناطق العالم إذ إن تغير النظام العقيدي في دولة مَّا لم يغير مواقفها السياسية وطموحاتها القومية.
لقد أسعدتني متابعة مبادرات الأزهر الشريف منذ أربعينات هذا القرن في التقريب بين المذاهب الدينية وخصوصا السنة والشيعة، وهو عمل فكري طيب، وكذلك فتوى الشيخ محمود شلتوت الشيخ السابق للأزهر بجواز التعبد على أي من المذاهب الخمسة؛ الأربعة المعروفة للسنة والمذهب الشيعي وهذا موقف عقلاني، كما أسعدتني كتابات الإمام الشيخ مهدي شمس الدين العالم الشيعي اللبناني حول التجديد في الإسلام وآرائه البناءة عن الدين والمذاهب والوطن الذي له الأولوية، كذالك آراء الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ تسخيري والشيخ حسين فضل الله وكلها تصب في فكر الإسلام الصحيح ولا يقلل من قيمة هؤلاء حدوث بعض اختلافات في الاجتهاد أو الرؤى، وهي خلافات يجب أن تظل محصورة في جانبها الفقهي والعقدي ولا ينبغي أن تفسد للود قضية. كذلك اجتهادات الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي وأنشطته في حوار الحضارات وفي الدعوة إلى مؤتمر أطلق عليه «الإسلام وليس الأسلمة» الذي عقده في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2008 في طهران.
وهذا التحرك من محمد خاتمي يعد تحركا إيجابيّا يستهدف في تقديري توضيح المفاهيم المرتبطة بالإسلام من ناحية، والنظرة المستقبلية من ناحية أخرى.
ولا مراء أن الصراحة والشفافية تقتضيان أن نشير إلى اأن الإسلام والمسلمين والعرب والهوية العربية مستهدفون بشدة في السنوات الأخيرة ولسنا في حاجة إلى التذكير بكتاب صراع الحضارات أو أقوال الكثير من الكتاب والمفكرين ورجال الدين في عدد من الدول الغربية، ويكفي فقط ان نشير إلى أن مسألة كراهية العرب خصوصا والمسلمين عموما كانت من الأطروحات التي برزت أثناء الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية ورددها كثير من المحافظين الجدد والمتطرفين اليمينيين في الولايات المتحدة ضد مرشح الحزب الديمقراطي باراك أوباما حتى أن إحدى السيدات في اجتماع انتخابي لمرشح الحزب الجمهوري جون ماكين قالت بصراحة وبصوت عال نها لا تثق في أوباما ولا تحترمه لأنه «عربي» كما أن كثيرا من الاتهامات التي وجهت إلى المرشح الديمقراطي بأنه مسلم وإنه إرهابي بل وتطرف البعض إلى وصفه بأنه ينتمي سرّا إلى القاعدة.
وطبعا نحن ندرك مدى حجم المبالغات في الدعاية الانتخابية، ولكن نجد أن القاسم المشترك والحد الأدنى يعكس كراهية للعرب والمسلمين على رغم أن باراك ليس عربيّا وليس مسلما وهو عضو في كنيسة مسيحية في أميركا وزار «إسرائيل» ولبس الطاقية اليهودية واجتمع مع اللوبي اليهودي في أميركا، ودافع عن «إسرائيل» وأمنها أحيانا بتطرف بخصوص القدس الشريف وأكد مرارا وتكرارا أنه ليس مسلما. ونسأل هل هذه مفاهيم حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين والحرية في الديمقراطية الأميركية؟
وباختصار نقول إن المطلوب من العرب والمسلمين حكاما ورجال دين ومحكومين ونخبا سياسية إدراك حقيقة الواقع الدولي المعاصر والواقع الإقليمي والتصرف بما يعكس مصالحهم المشتركة، وليس تطلعاتهم الضيقة بترديد شعارات الكراهية أو التفكير أو التفسيق ضد بعضهم بعضا واجترار ذكريات الماضي المريرة، والانحشار في ذلك التاريخ، وأيضا التخلي عن مفاهيم التبشير في عقائد أو أديان الآخرين.
إن عالم اليوم هو عالم الحريات وعالم الإنسان العادي وليس عالم الرسل والمعجزات. إن عمليات التبشير من الشيعة في بلاد السنة أو العكس أو التبشير المسيحي للمسلمين أو العكس كلها أعمال غير مجدية ووصفة جيدة للصراع السياسي وتفكك المسلمين والعرب وإضعافهم وتهميشهم واستنزاف مواردهم وإخراجهم من التاريخ والسياسة المعاصرة، فهل يدركون ذلك ويتخلى حكامنا ورجال الدين المسلمون على اختلاف طوائهم وكذلك المسيحيون عن هذه الأوهام.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2238 - الثلثاء 21 أكتوبر 2008م الموافق 20 شوال 1429هـ