في مقالة الأسبوع الماضي تطرّقنا إلى مقالة جيل كيبل عن «الرد الأوروبي على لندستان»، والتي يُطالب فيها أوروبا بنبذ نموذج التعددية الثقافية. وهنا يجدر بنا أنْ نشير إلى أنّ تحليل جيل كيبل ينطوي على ملاحظات صائبة، سأعود إلى مناقشتها في إحدى المقالات المقبلة، إلاّ أنّ هذا التحليل يقوم، في معظمه، على مغالطة غير مبررة من باحث بحجم جيل كيبل، فالتحليل الذي يجعل التعددية الثقافية سببا، وهجمات لندن نتيجة، إنّما يتجاهل ظاهرة «الإرهاب الدولي» المنفلت من عقاله، كما يتجاهل السياق السياسي والعسكري المضطرب الذي نشأ في العالم بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول وصعود المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، كما يتجاهل حرب أفغانستان، وحرب العراق، والمشاركة العسكرية لبريطانيا ولإسبانيا في هاتين الحربين اللتين تزعمتهما الولايات المتحدة الأميركية. والغريب أنّ كل هذه القضايا كانت في صلب اهتمامات كيبل نفسه قبل عام واحد فقط، وذلك في كتابه: «الفتنة: حروب في ديار المسلمين» (2004). فكيف نسي كيبل كلّ تحليلاته حول صعود «الجهاديين الإسلاميين» و»المحافظين الجدد»؟ وأين ذهب حديثه عن العالم المضطرب بعد زلزال 11 سبتمبر/أيلول وتقاطع مشروع الجهاديين مع مشروع المحافظين الجدد في «تحويل الشرق الأوسط بصورة جذرية» (الفتنة: حروب في ديار المسلمين، ص15)؟
لا ينبغي بأيّ حال من الأحوال أنْ نبحث عن مبرر للإرهاب، فهذا شرّ محض لا يُمكن تبريره بأيّ شكل من الأشكال، إلاّ أنّ تفسير حقيقة هذه التفجيرات أمر مطلوب لمعرفة المسببات المباشرة لمثل هذا الإرهاب. فحين وقعت تفجيرات مدريد في اا مارس/ آذار 2004 قال محققون إسبان إنّ خلية «إسلامية» مسلّحة دبّرت ونفّذت التفجيرات «انتقاما من المشاركة العسكرية لإسبانيا في الحرب في أفغانستان والعراق». وبعد يوم من تفجيرات لندن صرّح جورج غالاوي للـ»بي بي سي» بأنّ هذه التفجيرات هي الثمن الذي كان على أبناء لندن أنْ يدفعوه، وبصورة مأساوية، نتيجة لتورّط الحكومة في غزو أفغانستان والعراق. أمّا جون بلجر، الصحافي البارز الحاصل مرتين على جائزة الصحافة البريطانية، فقد أطلق على هذه التفجيرات اسم «تفجيرات بلير» (New Statesman, 25 July 2005). وفي السياق ذاته استنتج باحث سوسيولوجي مثل سامي زبيدة في مقالة له نشرت في 3 أغسطس/ آب 2005 بأنه لا يُمكن الفصل بين تفجيرات لندن، وبين ما يجري في العراق.
وأتصوّر أنّ هذا هو السياق الصحيح الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار حين نتناول تفجيرات مدريد ولندن. وأمّا في حالة دولة مثل: فرنسا فإنّها لم تسلم من أعمال الشغب والتخريب التي اندلعت في خريف 2005 في المدن الفرنسية والتي حصدت حوالي 8000 سيّارة محروقة، وكثيرا من الجرحى، ومئات من المعتقلين، وقد فسّرت هذه الأعمال على أنّها مؤشر على فشل النموذج الفرنسي وسياساتها الإدماجية الصارمة مع المهاجرين. وفي سياق هذا الفشل قام الكثير من مشجّعي فريق تونس (وهم فرنسيون من أصل تونسي) بإطلاق الصفير خلال إعلان أسماء اللاعبين الفرنسيين وعزف النشيد الوطني الفرنسي، مما عُدَّ مؤشرا على فشل سياسات الإدماج الفرنسي الصارمة، وأعقب ذلك اجتماعا طارئا جمع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم. حدث ذلك في مباراة كرة قدم ودية جمعت بين الفريقين الفرنسي والتونسي يوم الأربعاء 15 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2008.
والمعنى من هذا أنّ فرنسا لم تسلم من شرور نموذجها الإدماجي الصارم، ومع ذلك فإنّها سلمت من الهجمات الإرهابية التي ضربت مدريد ولندن لا بفضل سياساتها الإدماجية والعلمانية الصارمة، بل بسبب موقفها المُعارض لهذه الحرب، ولهذا كانت في مأمن من هذه الهجمات؛ إذ ليس ثمّة من باعث يدعو لرد انتقامي من قبل «الإرهاب العالمي» الذي اعتبر حرب أفغانستان والعراق معركته المصيرية. والأكثر غرابة أنّ سياسات فرنسا العلمانية كادت أنْ تتسبب في مقتل اثنين من الصحافيين الفرنسيين اللذين اختطفا في العراق وجرى التهديد بقتلهما إذا لم تتراجع فرنسا عن سياساتها العلمانية الصارمة، وتحديدا قانون منْع الرموز الدينية في المدارس. والمعنى من ذلك أنّ الإرهابَ الراهن ظاهرة سياسية وعسكرية أكثر مما هو ظاهرة دينية أو ثقافية. وبتعبير جون بلجر فإنّ هذا الإرهاب لا دخل له لا بالدين ولا بالعلمانية ولا حتى بضغينة الإرهابيين على «أسلوب حياتنا»، بل هو «شأن سياسي، ويتطلب حلا سياسيا». ولهذا السبب لا ينبغي أنْ نتجاهل سياق الحرب في أفغانستان والعراق حين تجري مناقشة تفجيرات لندن ومدريد، وذلك أجدى من إضاعة الوقت في البحث عن ذنب مزعوم للتعددية الثقافية.
ولنفترض أنّ الجماعة التي اختطفت الصحافيين الفرنسيين في العراق قد نفّذت تهديدها وقامت بقتل الاثنين، فهل يجوز لنا أنْ نلوم اللجنة التي أوصت بمنْع الرموز الدينية أو القانون الذي أخذ بهذه النصيحة؟ وهل يجوز لنا أنْ نستنتج أنّ «نموذج العلمانية الفرنسي يتعرّض لأزمة» وأنّه تسبب في مقتل صحافيين فرنسيين؟ إنّ هذا تحليل مغلوط وهو أشبه بمن يُطالب بقطع أيدي جميع البشر لا لسبب سوى أنّها قد تحمل السلاح، وتمارس القتل في يوم من الأيام! وهذا لا يقلّ سخفا عمن يُطالب الأميركيين بعدم استخدام الطائرات لا لشيء إلاّ؛ لأنّها ستكون عرضة لاختطاف إرهابيين، أو لأنّ الإرهابيين سيتوجهون بها لضرب الأبراج وناطحات السحاب كما حصل مع برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك!
ثم هل يحق لنا أنْ نفترض أنّ الدول التي تتبنى التعددية الثقافية كسياسة رسمية ستكون عرضة للهجمات الإرهابية، وأنّ الدول التي تتمسك بسياسات الدولة - الأمّة القائمة على استيعاب المهاجرين وصهر الأقليات ستكون بمأمن من هذه الهجمات؟ وإذا كان هذا التحليل صائبا فكيف نفسّر أنّ دولا كثيرة تعرّضت لهجمات إرهابية في حين أنّها لا تعترف بشيء اسمه التعددية الثقافية، يمكن هنا أنْ نذكّر بهجمات بالي والدار البيضاء والخبر والرياض وعمّان واليمن وشرم الشيخ وإسلام آباد وغيرها؟ فلماذا تعرّضت هذه المدن لهجمات إرهابية وهي أبعد ما تكون عن سياسات التعددية الثقافية؟ وكيف نفسّر أنّ الدول التي تتبنى سياسات رسمية معلنة تشجّع التعددية الثقافية كانت بمأمن من هذه الهجمات، ويمكن هنا أنْ نذكّر بأنّ كندا وأستراليا هما من الدول القليلة التي تتبنى سياسات تعددية ثقافية رسمية. ومن أجل معالجة عادلة لمطالب الكيبيك وجماعات السكّان الأصليين والمهاجرين، اعتمدت كندا سياسات التعددية الثقافية منذ أوائل السبعينيات، واعتبرت التعددية الثقافية قيمة أساسية في المجتمع الكندي، وخصوصا بعد إعلان وثيقة العمل الكندي للتعددية الثقافية Canadian Multiculturalism Act في العام 1988. وتطالب هذه الوثيقة كلّ المؤسسات والإدارات الفيدرالية بتنفيذ سياسات التعددية الثقافية بحيث تستجيب سياسات هذه الإدارات وخدماتها لحاجات الكنديين من كلّ الخلفيات. كما ينتظر من كلّ إدارة أنْ تقوم بإعداد تقرير سنوي عن أنشطتها التي تتوافق مع أهداف هذه الوثيقة. وفي أكتوبر/ تشرين الأوّل 2006 وقّعت الحكومة الكندية اتفاقية مع شبكة أغا خان للتنمية من أجل تأسيس «المركز العالمي للتعددية» GCP في أوتاوا، ومهمته الترويج للتعددية الثقافية كقيمة أساسية وحجر الزاوية في السلام والاستقرار والتنمية الإنسانية. أمّا في أستراليا فقد بدأ التعبير الرسمي عن التعددية الثقافية في العام 1973 عندما أصدر وزير الهجرة ورقة مرجعية بعنوان «المجتمع التعددي الثقافي من أجل المستقبل». وفي العام 1979 تأسس المعهد الأسترالي لشئون التعددية الثقافية AIMA، وكان الهدف منه زيادة الوعي بقيمة التنوّع الثقافي والتسامح. وفي العام 1986 ألغي المعهد وأنشئ مكتب أو إدارة شئون التعددية الثقافية OMA. كما أنشئ في العام 1994 المجلس الاستشاري الوطني للتعددية الثقافية، وفي يونيو/ حزيران 2000 تأسس المجلس من أجل أستراليا متعدد الثقافات CMA. وفي العام 2003 تبنت الحكومة وثيقة رسمية ذات طابع استراتيجي بهدف تحديث الأجندة والالتزام بخلق أستراليا متعدد الثقافات، وجاءت الوثيقة بعنوان «أستراليا متعدد الثقافات: الوحدة في التنوع» (Multicultural Australia: unity in diversity, 2003)
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2237 - الإثنين 20 أكتوبر 2008م الموافق 19 شوال 1429هـ